د.عبد الرحمن الحبيب
إذا كانت الصحة تاجاً على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى، فإن صحة البيئة هي جوهرة هذا التاج لا يراها الاقتصاديون، أو بمعنى أدق لا يستطيعون قياسها. الحفاظ على صحة البيئة مكلفة اقتصادياً، لكنها تؤدي إلى نقص في الأمراض والمرضى، ومن ثم تعني خفض التكاليف الضخمة لميزانية الصحة في البلد، فضلاً عن التحسن في الصحة النفسية وجودة الحياة..
بيد أن المشكلة هي عدم وجود تقييم مالي لهذه المنافع، فيصعب على أصحاب القرار إدراج صحة البيئة كأولوية في خطط الميزانية بدون لغة أرقام. حتى لو وضعوا صحة البيئة كأولوية (مكلفة مالياً) فقد يواجهون عدم رضا الجمهور الذي لديه أولويات مستعجلة بينما تحسين البيئة يأتي تأثيره على المدى الطويل. ومن غير المرجح أن ينظر السياسيون إلى أبعد من المكاسب السياسية قصيرة المدى حسبما ذكر ديفيد رانسيمان أستاذ العلوم السياسية بجامعة كامبريدج.
الهواء مشاع للجميع ليس ملكاً لأحد، وليس له قيمة مالية، لكن لا أحد يستطيع العيش لدقائق بدونه، كذلك على نحو أقل فإن العديد من الخدمات البيئية، مثل تقليص الملوثات الغازية في الجو وزيادة الرقعة الخضراء وحماية المناخ والحفاظ على التنوّع البيولوجي، فوائدها العظيمة معروفة للجميع لكنها عامة كالهواء، سواء كانت هذه الفوائد مباشرة أو غير مباشرة.
صحة البيئة تتطلب الحفاظ على التنوع البيولوجي الذي بدوره لا يمكن شراؤه ولا بيعه، أي أنه بلا سعر سوقي على خلاف السلع والخدمات التي يوجد لها سوق وبالتالي سعر وقيمة اقتصادية محددة. ورغم أن معظم الناس يميلون إلى التفكير في الاقتصاد على أنه يتعلق تحديداً بالتجارة أو المال، إلا أن أي شيء يعود من خلاله منفعة للبشر يعتبر اقتصاديًا. فإذا كانت منظومة الاقتصاد تعني «الأسرة البشرية»، فإن منظومة البيئة تعني «الأسرة الطبيعية» بما فيها البشر (سارة لوملي ولينيت أبوت، 2014).
لقد حاول الاقتصاديون البيئيون تطوير منهجيات لتقييم اقتصاديات الفوائد غير الملموسة للموجودات البيئية لأنه بدون هذا التقييم يتم تجاهل أو إهمال هذه الموارد البيئية القَيِّمة في عالم رأسمالي يتعامل مع السوق وأسعاره المصاحبة بتبجيل مفرط؛ وبالتالي، من الصعب إجراء تقديرات مالية لقيمتها مقارنة بموارد مثل المعادن والمنتجات التي لها قيم ملموسة. هذا «التقديس» المالي يؤثِّر بقوة في رسم السياسات على الصعيد العالمي، فصُنَّاع القرار يعتمدون على القيم المالية المقارنة لتحديد أولويات مخصصات الميزانية وغيرها من القرارات المهمة (بيشوب، 2013).
لذا، بُذلت محاولات لتقدير قيمة التنوع البيولوجي (الذي يعد مقياساً لصحة النظام البيئي) لأن فوائده معروفة بين العلماء بأنها بعيدة المدى ولأن فقدان التنوع البيولوجي يمكن أن يكون له عواقب طويلة الأجل، وأحيانًا كارثية، بالنسبة للاقتصاد البشري. في دراسة بيمنتال وآخرون (1997)، أجروا تحليلًا اقتصاديًا لمزايا التنوع البيولوجي خلصوا فيها إلى أنها كانت بقيمة 300 مليار دولار سنويًا للاقتصاد الأمريكي وحده، ويعتقد أن خمسة أضعاف هذا الرقم للاقتصاد العالمي. وبالنظر إلى أن هذا التقدير كان في عام 1997 بالدولار الأمريكي، فسوف يكون الآن أعلى بكثير.
من المهم اقتناع الحكومات ومن بعدها الشركات ثم بقية الناس بهذه الفوائد الاقتصادية؛ ففي الدراسة السابقة، قام الباحثون بتقسيم خدمات التنوع البيولوجي المختلفة إلى 21 نشاطًا في محاولة لوضع قيمة مالية لكل نشاط. أحد الأنشطة التي حددوها هي «بُنية التربة»، حيث ذكروا أن: «الكائنات الحية في التربة المتنوعة تسهل بناءها وتحسنها لإنتاج المحاصيل». وقدروا قيمة التنوع البيولوجي لبناء التربة بنحو 5 مليارات دولار للاقتصاد الأمريكي و 25 مليار دولار للاقتصاد العالمي سنويًا.
كل ذلك يتطلب نشر الوعي لتعميم قناعة عامة بهذه الفوائد الاقتصادية، فضلاً عن المنافع بعيدة المدى لصحة البيئة وخطورة تدهورها. ومن هنا، يرى الكاتب الألماني بول هوكينوس وجوب استمرار حركة حماية المناخ بتوجيه رسالة عاجلة حول الخطر على وجودنا، فحملة الشباب نجحت بالفعل في هز العديد من المشككين بتغير المناخ في أوروبا. ففي دول الاتحاد الأوروبي، يوجد اقتناع بنسبة 77 % من المواطنين بأن الاحتباس الحراري يعتبر قضية سياسية مهمة بالنسبة لهم.
وإذا كان الاقتناع مهماً فلا يقل عنه أهمية إشراك الجميع بدءاً بتحفيز الحكومات والشركات والمنتجين وانتهاءً بالمستهلكين، فمثلاً صناعة الماشية في البرازيل، قد لا يُظهر منتجي اللحوم اهتماماً بالبيئة لكنهم يقلقون كثيراً بشأن كبار المستوردين الذين يلتزمون بمعايير حماية البيئة، حسب روبرت موجاه مؤسس معهد إيجارابي للتنمية بالبرازيل، الذي يؤكد أن «مصير الأمازون متشابك مع مصير العالم»؛ فعلى المدى القصير، يجب إيقاف تفاقم الوضع، لكن على المدى الطويل، فأفضل الحلول هو الجمع بين الحكومات المسؤولة ومؤسسات حماية البيئة والشركات التجارية.
كما أن إشراك المجتمعات المحلية أثبت فاعليته، مثل انتشار المزارع التي تعتمد طاقة الرياح بشمال أوربا، حيث كان الدافع وراء التحول نحو مستقبل غير ملوث بالغازات من قبل السكان المحليين، وليس شركات الطاقة. وباختصار يمكن الجمع بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة، رغم أن المهمة التنفيذية عسيرة فأصحاب القرار بين مطرقة الحلول العاجلة وسندان الحلول طويلة الأجل.