د. خيرية السقاف
الشفيفون قبل أن يبوحوا يتلبسون حالة ما..
بعضهم كمارد ينقض, أو مشرد بوهيمي يسدر, يهيمون في تيه, أو يتمردون في عنفوان, لا يسيطرون على ذواتهم وحين يتمخضون بوحًا,
ذلك الناموس ناموسهم, وقسرًا «هسَّ»..
في حضور إلهامهم «هسّ»..
لا ينطق أحد بجوارهم كي لا يخرجوا من جلباب ناموسهم,
كي لا يتبخر ماردهم, كي لا تنطوي من بين أيديهم سجف الاستغراق الذي يحتويهم,
مع أن الأسفار قد حُـبِّرت بزخم الذين يبدعون في حضرة الأصوات, وفي فوضى المقاهي, وحين هدير الأمواج, ومع صهيل البروق, ولحظة جعجعة الرعود..
بل هناك من يشف فيهم في هدير الطمي فيتماهى, ويحلق في ثورة البركان ويُقصي,
ومنهم من لا تتمخض قريحته إلا على رائحة تفاحة عفنة,
تمامًا هناك الذين يتسعون منهم فيغوصون مع أبخرة القهوة, أو شواء اللحم, أو وقدة الجمر..
لكنهم في النهاية شفيفون كلهم,
يتحدون في القواسم العظمى, ويختلفون في التفاصيل الصغرى,
لكنهم يمنحون البشرية إذن الديمومة فيما يبوحون رسمًا, وحرفًا, ونغمًا, وتشكيلاً,
يأخذونها لأخيلة تثرى, بأجنحة وثيرة لا تبلى ببوحهم يجيء ملموسًا, مسموعًا, مقروءًا, مرئيًّا, صدقوا في قليله, أو ابتكروا كثيره, فهم يتماهون مع دبيب البشر على الأرض في الشيء الكثير منه..
الشفيفون, لهم مع الليل حكايات, وفي النهار أعجوبات,
وحيث يحطون يتلبسون عند «جنونهم» حالة ما,
وحدهم الذين تتبدل لهم الطقوس, وتتشكل المحطات, وتتغير ألوان الطيف!
في حضرة ناموسهم يحدث كل شيء خارق, ومخالف, ومختلف, وغير مؤتلف..
كل ذلك فيهم, داخل ذواتهم؛ ليستووا من ثم في قطعة خشب منحوتة,
في قصيدة شعر بأجنحة,
في قطعة نثر تغوص,
في نوتة موسيقى تزخ,
في أي قالب بوح يبقى,
يحرض مخيلات البشر, ويرطب يباب حياتهم..
وإن فنى ذلك المجنون الذي صرخ بمكنونه, ولمس ببصماته, وبعُدَ بمخيلته, وغاص بإحساسه, وحلق بكينونة فيه هي ليست على أية حال عادية..