أيقظته خطوات الفجر المندفعة نحو رهانها الأبدي مع بقايا الظلام العالقة في أفق المكان، والمنسدلة بحذر على متن الجبل، حيث تدفن هناك - كعادتها- كل التفاصيل التي كشفها هدوء الليل بعد أن جلبها خلسة من أروقة البيوت تحمل معها بقايا الرماد.. المنتشر بين أطنابها.. القار حتى الصباح يروي حكاية الدفء الذي استسلم للفناء!
كانت أضواء الفوانيس المنبعثة من شقوق بيوت الشعر -عندما يكون القمر محاقاً- تفك رموز تلك التفاصيل وتحلّ ألغازها في رحلة عبث تنتهي بها إلى قلوب الصخور الصماء..
استيقظ مع القاطنين هناك على صوت كبيرهم يرفع الآذان.. ويحمل (عرنان (1)) صدى صوته.. بعيداً.. بعيداً.. بعيدا! وقد ادّخرت الأرض بعضا منه ؛ ليوم تأبينه..
أطل النور.. وانتشر في المكان ثغاء الأغنام المشتاقة لأجراس صغارها.. وتسابقت النساء بأوعيتهن.. يسقين ويحلبن ويحملن بعض الصغار إلى ضروع أمهاتها.. في مشهد مهيب ينقاد فيه القوي للضعيف! هذه الطقوس الصباحية التي تشهد كل مغريات الحياة..كل مفاتنها !. لم تثنه - وهو الشغوف بها- عن إنفاذ ما عزم عليه.. ولفّه حول عنق الليل تميمة.. تحل حيث يسير ظلامه..
نعم، لم تثنه بعد أن اكتشف أن الأرض لا تنتهي، حيث يقف ( عرنان)، وأنه ليس بطلاً.. وأن كل تلك الأحاديث التي كانت تغزلها تلك العجوز عندما يمر بها في طريقه إلى مرعاه؛ لم تكن غير ضماد تمسح بها جراحه كلما رأتها تصرخ، وهو صامت.. كلما رأت أهل الرعاة ينتظرونهم بأقداح الحليب والتمر.. والبعض يزاد له الخبز.. وهو يدير عينيه، ويمضغ حنينه لأسرة احتفى الموت بكل بأفرادها.. ولفظه.. تحت أشجار الطلح.. يدور مع ظلها أينما دار!
بعد أن عرف أن كل تلك المشاعر التي كانت تلف المكان عند الغروب؛ لم تكن غير أنين عرنان يقاوم وحدته ويأنف أن يظهر للقاطنين وجعه، وهم المعجبون بشموخه..!
«لن أبقى وحيداً.. لن أبقى!» قالها بصوت عالٍ.. مرّ على كل جراحه منذ كان في الخامسة حتى بلغ السادسة عشرة من عمره.. بصوته العالي الممتزج بأنين خاتم تلك العجوز.. الذي أضناه قرع المغزل حتى أنهكه فأخرسه!
طرق صوته مسامع صديقه النائم، فاستيقظ مفزوعاً يسأله: ماذا بك؟ ماذا بك؟!
فرح باستيقاظه ومضى إليه يريد أن يخبره.. بكل ما عزم عليه.. لكن صديقه شغل بفراشه المبلول، وألقى اللوم عليه.. قلت لك مراراً: أيقظني! .. أيقظني ..ماذا أفعل الآن؟! ماذا أفعل؟!
عاد إلى مكانه وحمل متاعه الذي أعده منذ بدأ يجاهد فكرة بطولته المقترنة بوحدته.. بعد أن كان يقيناً لا يقبل الشك..! ثم انطلق وهو يودع صديقه: لا تهتم يا صديقي.. لا تهم كلّ شيء سيصبح أثراً بعد عين.. كل شيء!
غادر المكان الذي كان يظن أنه كل الأرض وكل الحياة.. غادر الناس الذين كان يظن أن الكون يخلو من غيرهم ؛ إلى غيرهم!
... ... ...
(1) اسم جبل غرب مدينة حائل
** **
- د. عائشة العنزي