محمد عبد الرزاق القشعمي
أثناء زيارتي لمدينة جدة لمرافقة الأستاذ فهد العلي العريفي عند دعوته وتكريمه في اثنينية الشيخ عبد المقصود خوجة، انتهزت الفرصة لمقابلة معالي الفريق المتقاعد سليمان بن حمد بن عبدالله بن جارد الجارد وذلك مساء يوم 6/ 1/ 1423هـ، في منزله بجدة والتسجيل معه ضمن برنامج (التاريخ الشفهي للمملكة) لمكتبة الملك فهد الوطنية. انتظرت قدومه في المجلس فحضر يعضد له اثنان من أبنائه، وقد تجاوز التسعين من عمره، إذ إنه لا يستطيع المشي على أقدامه، إلا أن ذاكرته ما زالت نشطة.
تحدث باستفاضة مستعرضاً ولادته وطفولته بالرس عام 1334هـ - 1915م وتلقيه مبادئ القراءة والكتابة لدى الكُتاّب، انتقل إلى المدينة للدراسة والبحث عن عمل رغم صغر سنه. وكان ذلك متزامناً مع دخول جيش الملك عبدالعزيز المدينة بعد حصارها، فتحدث عن الحياة الاجتماعية وشظف العيش، فتقدم للتسجيل بالجهاد، وعرف مع بعض زملائه أن في جدة نواة لتكوين جيش نظامي، وأن المستجدين يدرسون العلوم العسكرية والدينية، فذهب إلى هناك.
وذكرته بما سبق أن كتبه فوزي القاوقجي في مذكراته، عندما كلف بتأسيس نواة للجيش السعودي حدود عام 1347هـ - 1928م، بعد مغادرة نبيه العظمة وتخليه عن فكرة قيادة الجيش وقال أنه أقنع المسؤولين وبالذات الأمير فيصل - نائب الملك بالحجاز- والوزير ابن سليمان بتجميع الجيش بجدة ووضع برنامج لتدريبه.
أعلام في الظل ...
فقال إنه في هذه الأثناء وهو في الرابعة عشرة من عمره، قد انتقل إلى جدة وسجل في الجيش، وكانوا لا يشترطون مؤهلاً ولا سناً محددة. قلت له إن قاوقجي يذكر أنه في ذكرى جلوس جلالة ملك الحجاز وسلطان نجد، قرر القيام باستعراض لقوات الجيش رغم بعض النواقص، فلم يكن لديهم حيوانات لجر المدافع مما اضطرهم إلى استئجار الحمير والبغال التي تروي الماء من الكنداسة إلى المنازل، وتم تجميع الحبال وربط المدافع بالحمير وتمرينها عدة أيام على سحب المدافع، حتى كان يوم الاستعراض المحدد، وقال: إنه تمكن من إظهار الجيش أمام الملك والسفراء والأعيان بمظهر تجلّى فيه النظام الذي لم يعهده أحد في الحجاز.. وقال:
وعندما كانت تمر المدافع أمام الجمهور في الأراضي الرملية، كان يزداد خفقان قلبي خوف انقطاع حبل، أو تعثر بغل، فتغوص عجلات المدافع في الرمال، ويتوقف الاستعراض.
وقال إن الملك قد ابتهج وأهداه سيفاً قيماً تاريخياً لآل الرشيد، وقال إنه أهداه سيارة وفرساً كل هذا والفريق سليمان يسمع ما أرويه ويهز رأسه موافقاً وكأنه يشاهده اليوم.
فذكرت له نص ما ورد في مذكراته: «وكان الابتهاج عاماً وشاملاً لمناسبة الاحتفالات في عيد الجلوس إلا عند علماء الدين الوهابيين، الذين اعتبروها بدعة، وطلبوا إلغاءها، وأنه يجب على الملك أن يستغفر من الآثام التي لحقته لرضائه بإقامتها، .... فقال الجارد أذكر هناك اعتراض، ولكن لا أذكر التفاصيل.
قال إنه انتقل من الرس إلى المدينة عام 1345هـ وعمره إحدى عشرة سنة فأكمل الدراسة الابتدائية هناك. لينتقل بعد ذلك إلى جده ليلتحق رسمياً بالخدمة العسكرية جندياً وليشترك بعدة دورات عسكرية بالداخل والخارج، وذكر إحداها وهي دورة
متقدمة في الكلية الحربية بمصر وذكر من زملائه الفريق الطيب التونسي، وسليمان الماضي، وقال إن أحد من كان يدربهم بالكلية هو البكباشي جمال عبد الناصر قبل أن يكون زعيماً لمصر.
وذكر دورات أخرى بعد ذلك في بريطانيا والسودان - أثناء الاستعمار البريطاني له- وقال إنه قد تسلَّم مناصب عسكرية مهمة وعديدة ذكر منها: وكيل رشاش المدينة، قائد مفرزة العلا، قائد للسيارات المسلحة بالحدود السعودية الأردنية، قائد لمنطقة أبها، قائد لمنطقة جدة، مساعد لقائد القوات السعودية لفلسطين بمصر. وعدة مهام ومراكز قيادية أخرى بالجيش.
وقال إنه انتقل بعد ذلك للأمن العام باختياره مديراً للأمن العام برتبة لواء، ثم وكيلاً لإمارة مكة المكرمة، ثم مديراً عاماً لسلاح الحدود وخفر السواحل برتبة فريق، وقال إنه رأس اللجنة المشكلة في أغلب الوزارات بمدرائها العامين لتحديد مداخل المملكة من الدول المجاورة.
وقد وجدت مقال الأستاذ علي محمد الرابغي الذي نعاه بعيد وفاته بجريدة عكاظ بتاريخ 26 -11 -1431هـ 2- 11 -2010 م بعنوان (سليمان الجارد رجل من رجالنا) يعطي لمحة موجزة لحياته ومسيرته العلمية والعملية فأحببت أن أضيفها
لما سبق.
«قد يغفو تاريخ الأشخاص عن الرموز فترة وجيزة.. ولكنه سرعان ما يستيقظ في حس الأمانة التاريخية. وخاصة أمام رموز في حجم الفريق سليمان الجارد.. رجل لا يخطر على بال أي منصف أن يمر على سيرته مرور الكرام.. فهو علم شامخ تطاولت هامته وقامته عبر تاريخ البدايات.. الذي لعب فيه الأفذاذ من طراز (أبو حمد).. فهم الذين كان لهم الفضل بأن نحتوا الصخر بأيديهم ليتشكل هذا الكيان ويأخذ طريقه نحو ما نحن عليه من الصفر.. نعم من الصفر وسط ظروف صحراوية موغلة في القسوة والجفاف وفقر الإمكانات وأرضية معلوماتية تكاد تصل إلى درجة الأمية.
الإرادة والعزيمة: ولكن قوة الإرادة والتصميم ونية الرجل القائد المصلح عبد العزيز وسلامة طويته تجاوزت صرف الرواتب من أرزاق وأغنام.. إلى حالة تمضي في التدرج معتمداً على الله ثم على عزم الرجال.. وكان الجارد منهم فقد جرد إرادته القوية وتجرد من كل شيء في وجه إرادته.. وأخذ يشق طريقه نحو غاياته لا يلوى على شيء.
ترجمة حياته الحافلة:
ولد في قضاء الرس في نجد عام 1334 .. ثم تدرج من الكتاب إلى الابتدائية في المدينة المنورة، ثم التحق بالجندية وكان أحد الذين وقع عليهم الاختيار لتعلم الرشاش والمدفعية، وتدرج في الرتب والمرتبة حتى عين قائداً لمنطقة عسير، فقائداً للفوج الأمني المتحرك بالطائف، فقائداً لمنطقة جدة.. ثم قائدا لقوات خط الأنابيب.. فمساعدا لمدير إدارة الجيش بالطائف، ثم قائداً للوحدات العسكرية بالطائف، فقائداً لمنطقة تبوك، وفي 1- 6- 1378 عين مديرا للأمن العام. وتجدر الإشارة إلى أنه كلف بأعمال وكالة إمارة منطقة مكة المكرمة من عام 1378 حتى 1-7-1380 .. وكان محل ثقة المسؤولين، فعين عضواً في محادثات الحدود السعودية الأردنية، ثم رئيساً للجانب السعودي في ترتيب القوات السعودية المصرية على خليج العقبة.. ثم عضواً في محادثات الحدود السعودية العراقية.. ثم رئيساً للجنة المديرين العامين التي يمثّلها من المالية (شؤون الجمارك) ومدير الأمن العام ومدير عام الجوازات والحج والزراعة والأشغال العامة والصحة لتحديد مداخل المملكة.
الدورات العسكرية
• دورتان عسكريتان برئاسة سعد بك جودة.
• دورة عسكرية برئاسة فوزي بك القاوقجي.
• دورة عسكرية برئاسة طارق الإفريقي.
• دورة عسكرية برئاسة الشريف محسن بن الحسين الحارثي.
• دورة عسكرية برئاسة البعثة الإنجليزية في الطائف.
• دورة عسكرية بالمعسكرات البريطانية في الخرطوم.
• دورة عسكرية في الكلية الحربية في القاهرة برئاسة جمال عبد الناصر.
وكان في كل هذه الدورات من المتفوقين الأوائل.
أبرز إنجازاته:
ما زالت ذاكرة الوطن وذاكرة العسكريين في قطاع الأمن العام تحفظ له بكل التقدير والثناء جهوده المباركة وسعيه الحثيث إلى مساواة رواتب ضباط وضباط الصف أعلام في الظل.. وجنود الأمن العام برفاقهم في الجيش.. كما يسجل له نجاحه في تحسين رواتب الموظفين المدنيين.. وما زال الأحياء يذكرون بكل إعزاز نجاحه في توفير سيارات جديدة لاستخدامها في مهام رجال الأمن في المناطق الجبلية والوعرة.. وهكذا نشهد شريط حياة حفلت بالأحداث التي جعلت من الجارد شخصية محل تقدير الوطن ومواطنيه.. وثقة المسؤولين. تقلب أبو حمد في عدة مناصب مشرقاً ومغرباً وشمالاً وجنوباً يرتقى فوق تكاليف هذه الحياة التي أبرز سماتها التنقل وعدم الاستقرار وما يصاحب ذلك من تأثيرات على أهله وعياله..
إن سليمان الجارد رسم أبعاداً شخصية قيادية متميزة زانها الإخلاص وحب الوطن الذي كرس له جهده ووقته.
فيصل الحارثي والجهد المشكور
أسجل هنا وللتاريخ حقيقة قد تغرب عن مبلغ علم الكثيرين.. أعني بذلك الجهد العظيم الذي بذله اللواء فيصل الحارثي عندما أرّخ لتاريخ نشأة الأمن العام في المملكة.. وألقى قدراً من الضوء أبان من خلاله ملامح الجنود المجهولين.. الذين كان لهم شرف التأسيس والبناء وسط ظروف بالغة الشدة والقسوة.. ليؤرّخ حقبة زمنية رصعت برجال أبرار بارزين، منهم سليمان الجارد.. حتى لا تندثر معالم هؤلاء الأفذاذ ويطويهم التاريخ ويسدل عليهم ستارة النسيان.
الجحود والنكران
كنت حاضراً في مجلس الأمير ماجد بن عبد العزيز عندما حضر الفريق الجارد وقد أناخ على كاهله الزمن.. واستمعت إلى قصة غاية في الإثارة ونكران الجميل لهؤلاء الرواد.. فقد أوقف أحد الجنود سائق الفريق الجارد لمخالفة بسيطة.. وذهب الفريق لإخراج السائق فطلب الجندي في تخط للآداب السلوكية طلب إليه أن يحضر معرِّفاً.. وقدم الفريق نفسه للجندي في تواضع.. وكان رد الجندي جئتك في يوم عندما كنت مديراً للأمن العام طالباً النقل فخذلتني.. رأيت اللواء الحارثي يتميز من الغيظ، إذ كان قائداً لمنطقة مكة المكرمة وتوسل إلى الجارد أن يعطيه اسم الجندي ليأخذ له حقه منه.. ولكن الكبير يظل كبيراً.. رفض ذلك وأبى أن ينزل إلى مستوى الصغار.. رحم الله أبا حمد رحمة الأبرار.. وتحية إكبار للواء الحارثي الذي أرَّخ لهذه الفترة الزمنية.. وكان مرجعاً أخذت منه هذه المعلومات.