سهام القحطاني
قلت في الجزء السابق إن حصول القيمة ثابت لكل سؤال باختلاف مقاصده.
لكن فيما يتعلق بالإجابات -تشكيل أصول الجوهر- فالأهمية تتفاوت وفق معايير عدة.
هل تتشكل كل إجابة وفق اعتقاد؟.
وفي المقابل هل يتساوى السؤال في ذات المقام؛ يعني هل يتشكل السؤال أيضاً وفق اعتقاد؟.
وهل يعتبر الاعتقاد في ذاته إحالة معرفية؟.
ينبني الاعتقاد على «شعور ما» نحو «مخصوص معين» إما أيكون فعلاً أو فاعلاً أو دلالة أو قيمة، وهو ما يعني كثيراً من الانفعال قليلاً من التعقّل، كما يعني أن مقصد البناء هو سؤال الكشف.
وطريقة البناء تعتمد على الاستعداد الانفعالي لكل فرد، وهذه الفردية في مبتدئها لا تحول كل اعتقاد إلى عقيدة إلا في حالة توفر إجراءات ثقافية؛ بحيث يصبح الاعتقاد تعميم باتفاق جمعي.
لكن هذا لا ينفي تحقق معرفة من حاصل الاعتقاد و إن كان في أدنى مستوياته التفكيرية.
إن الاعتقاد الأولي نحو الأشياء هو الذي يرسم إطارها التعريفي من خلال إحساس الإنسان المتوقّع بأصل الأشياء ووفق ذلك الإحساس يمنحها درجات التقدير و الأهمية بناءً على تأثيرها على مجرى حياته، وبذلك يربط القيمة المعرفية الممنوحة لكل شيء بالفائدة المعيشية المحققة له.
وارتباط أي معلومة بفائدة إجرائية هي معرفة بشرط قدرتها على الصلاحية المستمرة.
ولذا يمكن اعتبار الاعتقاد ممثلاً لإحالة معرفية متى ما حقق حاصله فائدة إجرائية ذات صلاحية مستمرة.
كيف يتكون السؤال؟ في المرحلة الأولى يتكون السؤال كردة فعل لأمر حاصل لا يتوافق مع التطبيقات التي اكتسبها المرء من تجاربه الحسية وأوليات سجله الإدراكي، ويمكن القول بالتجاوز أن السؤال هنا يتخذ هيئة التفسير.
وهنا يأتي السؤال كدافع للفهم ليس على مستوى التحليل إنما على مستوى المقارنة والتجاور بأبعادها التوافقية والمتعارضة مع منظومة تطبيقاته المكتسبة وهو مستوى كما قلت في الجزء السابق أسهم في تأسيسه لجدولة الثنائيات.
وبذلك تأسست مدونة أوليات الكفاية الفهمية على مبدأ معرفي قائم على المقارنة والتجاور.
وهذا المبدأ أفرز « العناصر الأجنبية» على الفهم التي تتعارض مع جدولة التطابق.
وهذه العناصر هي التي شكلت المرحلة الثانية من السؤال المعرفي للإنسان، المرحلة التي قامت على المسار العللي؛ البحث عن أسباب انعدام «كلية التطابق بين الأشياء و استدامتها»، أو لماذا لا تتطابق الأشياء بذات الكيفية؟ وهو سؤال يعني بدوره «كسر لمرآة الأحادية» التي انبنت عليها التجربة الحسية للإنسان الأول.
إذن مثّل الاختلاف الجذر الأولي للسؤال المعرفي في هيئته العللية، وهو ما جعل الإنسان أمام قضية فكرية تتجاوز ما تعوّد عليه من حالات مؤطرة بالمسلّمات المطلقة، وهو أمر هزّ جوهر «المسلّمة» ومسطرة معاييرها وقيمتها.
وهذه المسألة القائمة على التقاطع بين ما يُحسب في اعتبار الجوهر المكتسب وفق حاصل الاعتقاد الحسي والاعتبار المعارض له هي التي أنتجت فيما بعد الصراع الفكري في كل حقبة تاريخية والمسألة المعرفية الأشهر لتأسيس أي صراع فكري مسألة الثابت و المتحول وما يُحسب على متنها من مرفقات فكرية وكفايات فهمية.
انبنى جذر السؤال المعرفي في مقامه الجدلي على «مقولة أصل الجوهر»، سواء على مستوى التوصيف المحقق لهيئته أو الصياغة المحققة لتقديمه أو الشكلانية المحققة لعلاماته أو التطبيقات المحققة لتمثيلاته.
فتلك التدرجية لصناعة هوية الجوهر هي التي خلقت فلسفة المعرفة في بعديها النظري و التطبيقي.
وبذلك فنحن أمام «ثلاثة أصول للجوهر المعرفي»؛ التفسيري و التعليلي و الجدلي.
أما المقصود بالجوهر؛ فيقصد به البعد الكيفي الواصف للأشياء التي يتشكل من خلالها الماهيات، أو الهوية المعرفية لذوات الأشياء.
لا شك أن البصمة التعريفية لكل شيء هي العتبة الأولى التي يُؤسس من خلالها الهيكل التنظيري للماهية.
في البدء المعرفي كانت ماهية الأشياء مرتبطة بآثارها، فالأثر هو المقياس الذي صاغ من خلاله الإدراك البصمة التعريفية للشيء، مما جعل المظهر أو الشكلانية المتكررة العلامة التعريفية الدالة على أصل ماهية الفاعل، مما حوّل المظهر إلى خاصية وهذا المسار التفكيري كان يتوافق مع المصدر المعرفي في ذلك البدء وهي التجربة الحسية.
مما جعل التمثيلات هي البديل التعريفي للماهية، وهو مبدأ معرفي انعكس على ثقافة تلك المجتمعات بداء من فكرة «الطوطم» الذي كان أهم تمثيلات الماهية المقاسة بالشكلانية وصولاً إلى «مفهوم القوة» الذي استمد ماهيته أيضا من خلال الارتداد الذاتي للمقايسة الشكلانية والذي تبلور من خلال الأساطير.
وبذلك يمكن القول أن «جوهر المعرفة» هنا كان يعتمد على «الشيئية» وهو مقام لا شك أنه يتوافق مع التجربة الحسية كمصدر لأوليات تلك المعرفة.
يرتبط اعتقادنا نحو ماهية الأشياء في أول الأمر من خلال تجربتي الحسية وهو ما يعني أن مصدر تلك التجربة يجب أن يتصف «بالشيئية» إذ يصبح التجسيد هو وسيط بين قيمة الدلالة و الهوية التعريفية للماهية.
وهذا النوع من المعرفة هو الذي أدخل المجتمعات القديمة في صراع ديني مع الأنبياء و الرسل الذين جاؤوا بالرسالة الوحدانية؛ لأن تشريعاتها اعتمدت على الغيبية؛ أي انتفاء الشيئية كصانعة لقيمة مقدرة بالمطلق ،مع أن الرسالة الوحدانية لم تٌلغِ الشيئية إنما عدّلت وظيفتها من قيمة في ذاتها ينبني عليها المقدّس إلى مؤشر على فاعل مطلق التقدير.
ودخول الغيبية ضمن أصول جوهر المعرفة الميدان الفكري للإنسان الأولي الذي صاحب ظهور الأديان نقل الفكر الإنساني من مرحلة الحسية إلى مرحلة الجدلية.