د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ذكرت في أول المقالات بيت الفرزدق في الرد على موقف سليمان ابن عبد الملك من شعر نصيب:
وخير الشعر أكرمه رجالاً
وشر الشعر ما قال العبيد
ويرد السؤال هنا لماذا «شر الشعر ما قال العبيد»، وما الفرق بينه وبين ما يقوله كرام الرجال؟ وقلت في المقال نفسه إن البعد الطبقي هو الذي يجعل شعر العبد شراً، لأن قول الشعر يخالف معنى العبودية، فهو يمكنه من أن يعبر عما يحس به تجاه الأشياء حوله، ويمنح صاحبه أداة يطاول بها أسياده، فهو يمكنه من شهود المجالس، ومدح الخلفاء، ومقارعة غيره من الشعراء بما يقولونه من حكم أو أمثال، فعوضاً عن أن يكون تابعاً يكون نداً ونظيراً لهم، فهو وسيلة للخروج من الطبقة الاجتماعية التي يعيش فيها إلى طبقة أعلى منه، إنه يجعله كالعبد الآبق من سيده، ويكسبه قدراً من الحرية، بما تمنحه الكلمات من انتشار، وظهور بين الرواة.
ومن هنا أصبح شراً في نظر الفرزدق، ليس شراً بالمعنى الفني لأنه يذيع ذائقة فنية لم يتعارف عليها العرب في سنن أشعارهم كالذي قيل عن شعر المولدين أو (الحداثيين)، أو حتى الأخلاقي الصرف كما قيل عن شعر بشار إنه «يفسد النساء والشباب بشعره الفاضح» حتى نهاه المهدي عن التشبيب، فهم لا يراعون ما نشأ عليه الناس من قيم وأخلاق، وإنما لأنه وسيلة للتمرد الاجتماعي، لأنه يفسد النظام الاجتماعي بمفهومه الطبقي، وينشر الفوضى في التراتب الهرمي الاجتماعي، فهي مثل مقولته الأخرى المشهورة التي قالها حين سمع امرأة تنشد شعراً: إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها.
وإذا ثبتت هذه الطبقية الثقافية، فإنها ستأخذ كل خصائص الطبقة الاجتماعية سواء كانت اقتصادية أو غيرها، وسواء كانت مكوناتها قيمية أو عرقية، حين تنغلق على نفسها داخل حدود شفافة من المفاهيم والقيم، والذوق، ويصبح كل فرد فيها متصلاً بأفراد طبقته بحيث يكون محصوراً فيهم، فما يقدمه لهم، وما يستهلكونه يكون من نتاجهم، فهم المنتجون وهم المتلقون. وهو حين ينتج عملاً يكون قد حدد سلفاً نوع المتلقين لشعره، وما يقول، وهذا بدوره أيضاً يحدد ما يسميه التلقيون بأفق التوقعات، فالشاعر أو الكاتب يدور في فلك الجماعة التي يفترض أنها ستتلقى أدبه، ويستجيب لتوقعاتها من حيث المعنى والأسلوب، ما يجعله مستجيباً أيضاً لحاجاتهم ومعبراً عنها، ممتلئاً برؤيتهم، ومعيداً إنتاج ثقافتهم بعملية ارتدادية.
هذا الانغلاق الطبقي يحول هذه الفئة من الناس إلى نوع آخر من البشر، (والنوع مختلف اختلافً كاملاً عن الطبقة بناء على أنه يعني الاستقلال التام والاختلاف في حين أن الطبقة تعني الاختلاف النسبي) تنعزل عن الطبقة الأخرى، وتسعى لأن تحقق الاكتفاء بعيداً عنها بوصفها ذات شعراء وأدباء، يدركون حاجاتهم، ما يكسبهم الرضا النفسي، عوضاً عن أن يكونوا عالة على أحد، أو أن يكونوا طبقة ثانية أو درجة ثانية من المجتمع، وهذا الانفصال والانعزال يؤسس الأرض الخصبة لما يسمى بالصراع الطبقي بين فئات المجتمع ويجعل الأدباء في دائرته أو ربما أداة له شعروا بذلك أم لم يشعروا بوصفهم قد أصبحوا جزءاً من الطبقة يجري عليهم ما يجري على سائر أفرادها.
كما أنه يمنح انطباعاً أولياً أن هذا المنتج متصل بهذه الطبقة الاجتماعية من الناحية الفنية –كما جاء في قول الفرزدق- لا يكاد يخرج عنها، ليس حقيقة ولكن حكماً، وما ينتج عنه من واقع عملي كما في الفقرة السالفة، متجاهلاً حقيقة أن الشاعر يستخدم الأدوات الفنية التي يستخدمها الشعراء سواه كما أشرت في المقالة السابقة، وأنها تعبر عن إنسان واحد يحس في الأشياء نفسها بالصورة نفسها في الغالب، ويدركها كذلك.
ومتجاهلاً أن «الطبقة» هي في حقيقتها مفهوم افتراضي يختلف تحديدها باختلاف السياق المعرفي الذي ترد فيه، فقد تكون فنية كما عند ابن سلام، وقد تكون تاريخية كما لدى ابن سعد صاحب الطبقات الكبرى، وقد تكون اقتصادية كما لدى ماركس أو معرفية علمية لدى سواه.
وهي في كل سياق تفرض –كما يقول بعض النقاد- إرغامات معيارية تختلف عنها في السياق الآخر كما تفرض طريقة في صلة كل طبقة بالأخرى تحدد فيها الحدود، والأقدار.
هذا المفهوم الافتراضي ليس حدياً يقوم على الفصل التام بقدر ما هو تقريبي يكشف عن بعض الفروقات الاجتماعية، وطريقة كل فئة في حياتها اليومية، ونظام معيشتها، وطريقة التعامل معها دون أن يمنع أن يكون هناك تداخلاً بينها وتشابهاً، وتبادل كل فئة منها من الأخرى يضيق من أثر مفهوم الطبقة في الحياة الواقعية.