وقت الحرب العالمية، وعلى أصوات انفجارات القنابل والصواريخ، وتحت المباني التي تتحطم، وبين الأنقاض، يُبَصَّم جندي الجيش النازي هيرمن براون على ورقة عقد زواجه من الفتاة ماريا براون في ألمانيا 1943م. وبهذا الزواج المضطرب يفتتح الفيلم الألماني «زواج ماريا براون -1979» للمخرج القدير راينر وارنر فاسبندر أولى لقطاته، وبعدها يظهر اسم الفيلم وطاقم العمل.
ثم نشاهد حال ألمانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فتظهر ماريا براون وقد نجت من الدمار، حاملة لافتة مكتوبًا عليها اسم زوجها هيرمان براون وهي تمشي بين بقايا المباني والشوارع المهدمة في أماكن انتظار الجنود العائدين أملاً في لقاء زوجها، ولكنه مفقود مثل كثير من الذين شاركوا بالحرب؛ فتعيش ماريا براون حياة صعبة، وفقر مدقع، وضياع، وهي لا تعرف إذا هي ما زالت مرتبطة بزوجها، ولا تعرف إذا هي أرملة؛ لأنها لم تستلم خبر وفاته.
يتدهور الاقتصاد الألماني، وأوضاع الناس تزداد فقراً وسوءاً؛ فتضطر ماريا براون للتقديم على فرصة عمل كنادلة في حانة للجنود الأجانب الذين ساعدوا بتحرير ألمانيا الغربية. وبسبب جمالها الخلاب تحصل على العمل.
وفي ليلة ليلاء، وعلى موسيقى المعزوفة الأمريكية «موونلايت سيرينادا»، تخترق ماريا حشدًا من الجنود الواقفين على ساحة الرقص، وتتجه بثقة كبيرة نحو جندي أمريكي «من أصول إفريقية»، ضخم الجسد، وتبدأ معه علاقة صداقة، تتحول سريعاً إلى حكاية حب، استفادت من علاقتها كدخل مادي، وتعلمت عبرها اللغة الإنجليزية (التي ساعدتها في وقت لاحق من الفيلم على العمل كمترجمة عند تاجر فرنسي). ومع مرور الوقت حمِلت ماريا من هذا الجندي الأمريكي، وما زالت ماريا حتى هذه اللحظة من الفيلم تتمتع ببراءة فطرية، وذلك عبر التصرف دون تفكير مسبق، ودون البحث عن طرق خبيثة لتحقيق مبتغياتها، فهي تسير كيفما يأخذها الطريق، حرة وبريئة، لدرجة أنها نسيت أجزاء من ماضيها وهويتها القديمة.
فكرة العودة مخيفة، حتى إن العودة أحياناً تكون أصعب من الرحيل؛ لأن الرحيل فراق متفق عليه بين أطرافه، أما العودة، وخصوصاً العودة المتأخرة، معناها أن لا تعود تماماً؛ لأن الزمن يتغير، والنفوس تتغير، والعقول تتغير، وحتى الهوية تتغير؛ لذا وفي لحظة مفاجئة يعود هيرمان براون متأخراً جداً، يعود لمنزله وليته لم يعد، عاد في الوقت الغلط؛ فنتج من ذلك صدمة للجميع.
يقابل هيرمن لحظة دخوله منزله زوجته ماريا والجندي الأمريكي، فيقع شجار بينه وبين الجندي الأمريكي. ولتثبت ماريا وفاءها لزوجها قامت بضرب الجندي الأمريكي على رأسه ضربة قوية، تسببت في وفاته. وهنا تدخل شخصية مرايا براون منحنى مختلفًا؛ فتنتهي مرحلة البراءة المطلقة التي كانت تشكل طبيعتها، وتدخل مرحلة «الوحش»، مرحلة الشر المحض. ارتكبت ماريا براون الخطيئة الأعظم عبر القتل، ومن هذه اللحظة في الفيلم تبدأ ماريا براون تتخذ قرارات خاطئة لمحاولة إخفاء الخطيئة الأعظم، كأن يعترف هيرمان للمحكمة بأنه هو القاتل، ويحكم عليه القضاء بالسحن لسنوات عديدة. رغم أن قتل الجندي الأمريكي خطأ غير متعمد من ماريا براون، لكن تلبيس الزوج التهمة هو بداية ممارسة الخطأ المتعمد.
من هنا يبدأ تدريجياً ضمير ماريا براون في الاحتراق. نشاهد ذاتها تتكسر إلى قِطع حادة ومؤلمة؛ فتحاول التكفير عن خطاياها الكبرى عبر ممارسة الخطأ المؤقت ظناً منها أنها ستمارسه لفترة مؤقتة، ثم بعدها ستعود الحياة طبيعية كما كانت، ولكنها تنسجم مع التغيرات الخطيرة التي تمارس فيها الشر بوعي تام. وعبر فعل الأخطاء، وهي تعرف بأنها أخطاء لأجل التصحيح، تحولت ماريا لنموذج شرير خالٍ من معاني الأنوثة والبراءة والجمال التي ظهرت عليها في بدايات الفيلم؛ فشخصية ماريا براون في البداية كانت دافئة، وتبعث في النفس الرضا والأمان، ولكنها تتحول إلى شخصية قاسية، ومتذبذبة، وهشة، وخطيرة.
والغريب أن فعل الأخطاء يقودها لتحقيق أهدفها بشكل سريع حتى تصبح تمتلك كل الذي تحاول أن تصل إليه.
أدمنت شخصية ماريا براون ممارسة الأخطاء ظناً منها أنها مدة زمنية قصيرة ولن تدوم، ولكنها دخلت عوالم يصعب الخروج منها، حتى تظهر في الأخير وقد امتلكت كل شيء تتمناه، ولكنها فقدت نفسها، ولم تعد تعرف ذاتها؛ لأن الشر لا يقود للخير مهما كان مؤقتاً وضرورياً. وعلى مستوى آخر، كأن شخصيتها دلالة رمزية، تشبه تخبطات سياسة ألمانيا النازية، وسنوات هتلر، حتى إن اسمها يشبه اسم عشيقة هتلر (إيفا براون).
وينتهي الفيلم بمفارقة ذكية على أصوات ولقطات انتصار ألمانيا في كأس العالم 1954م؛ فبعد سنوات الحرب والوجع والألم يبقى الوطن، ويعود للانتصار من جديد، ويحيا الأمل، والمستقبل.
فاسبندر كعادته عبقري في كشف تعقيدات الهوية الألمانية، وكعادته يتميز بلغة سينمائية عذبة، تفيض رقةً وجمالاً، ويمتلك سحراً مذهلاً في وضع شخصيات أفلامه داخل إطارات وإطارات أخرى وإطارات، وكأنه يتلصص على الشخصيات والأحداث بأسلوب لا يشبهه فيه أحد.
** **
- حسن الحجيلي