في وقت ومرحلة ما قد يبدأ الإنسان للدفع بذاته إلى مشقة فهم حقيقة الحياة انطلاقًا من ذلك الهواء الذي يتردد على صدره، وقد جُبل على نقيضين منذ ولادته، أحدهما الرغبة في استنشاقه، ثم الرغبة في زفيره؛ كي يبقى على قيد الحياة. إنه مفهوم سهل ممتنع؛ فالحياة تمارس عليه حِيَلًا كُثرًا، ربما بدافع عدم فهمها من الأساس. هذه الحيل الذكية تعطينا الشعور وقت انسجامنا النادر مع طقوس القناعة بأن الحياة بسيطة فانية، ولا تستحق كل هذا الكم من الخوف والقلق على المستقبل؛ فالجميع ميتون لا محالة، وما خرج أحد منها بشيء مما جمع أو ملك أو كنز. ثم هي نفسها الحياة في الصباح التالي تدفع بكل ما حول الإنسان من محيطه الاجتماعي والمادي والحضاري لفهم الحياة وتفسيرها بشكل آخر؛ فهي المال والجاه والعز والسلطة، ومن كان له ذلك فهو الحيّ السعيد، كيف لا وهو الذي يستلذ بما يحلو له من نعائم، ويستطيب بالتفاف الناس من حوله، وتشجيعهم له حبًّا لما معه أو طمعًا بما لديه. حينها تدفعك الحياة مرة أخرى لمفهوم العمل والإخلاص لها؛ كي تسقيك بما سقت به أولئك المتنعمين.
إن الإنسان لطالما عاش مختارًا أو متذبذبًا بين هذين المعنيَين منذ الأزل؛ فالحياة بمفهومها التجريدي نبأ سار لمن تجرد من مادية الحياة، وأراح نفسه من اللهث وراء شهواتها المادية والمعنوية، وعوضًا عن ذلك ظل يعيش حياته بعيدًا عن ضوء المفهوم الآخر، حتى لو عاش فقيرًا معدمًا، أو بسيطًا متواضعًا، لا يعرفه أحد بماله أو جاهه أو علمه.
وإذا ما آمنا بهذا الواقع فلا شيء يمكنه رفع الدنيا في نظرنا، ولا جديد بها مستطابًا سوى الصحة وقوت اليوم الذي يريحك من همّ الألم وسؤال الناس. إن هذا المعنى للحياة بتجردها التام وحقيقتها الزائفة يدركه قلة من الناس كل زمن؛ فهم من يعيشون واقعًا يشفقون فيه على عبيد الحياة وهم يشاهدون قتلى الحروب على شاشات التلفاز، ومتسلطًا يقتل الآخرين بدافع النهب والسرقة، وأشخاصًا طامعين يتلهفون لسرقة جيوب الناس لرفع أرصدتهم، وأناسًا خدعهم الأمل فظلوا يلهثون حتى آخر نفس وراء تعزيز تجارتهم ونفوذهم.
إن الإنسان لطالما رصد هذا المفهوم التجريدي لدى الفلاسفة والناسكين ومَن لزموا الأسرّة البيضاء حيث أدارت الصحة التي هي جزء من الحياة ظهرها لهم. إن المرض الجسدي - على سبيل المثال - ليس من الحياة في شيء، بل هو ضد لها، ينافي أدنى مقوماتها، ولعله يحقق مقولة الأديب الروسي أنطون تشيخوف بأن الإنسان لا يرتقي إلا حينما يلمس بيده حقيقة الحياة التافهة التي يعيشها.
ويمضي بالإنسان الأمر حتى يغازله المفهوم الآخر بدرجات مختلفة، يعمل من خلالها على تحقيق مفهومه للحياة. فكلما كثرت على الإنسان مسؤولياته الأسرية والمجتمعية والدنيوية التي تُشكل له الحياة اشتدت حاجته للعمل من أجلها وفي سبيلها؛ فقد وجد فيها محضنًا واسعًا لذاته، وبات يترتب عليها تهديد لحجم ذاته التي كلما تفاقمت ازدانت الحياة له، وكلما نقصت ساءت إليه.
ومما يظهر أن سُنة الله في كونه أن يعيش الناس حياتهم بين حبها والتعفف عنها أو رؤيتها في قَدر متساوٍ، لكن شبه المؤكد أن كل مشاريع إخضاع البشر لأحد المفهومين الأولين لا يزال عالقًا حتى اللحظة؛ فالحياة والموت يظلان نقيضَين مجتمعَين في فؤاد كل إنسان متى ما أراد فهم حياته «سببها ومآلها».
** **
- عبدالله العمري