صيف الباحة، في موقع ولادتي في قرية «محضرة»، جميل ومبهج، حين يصير مطراً في يوليو، ومناخاً باسماً لنضج الفواكه، ونسيما نشمُّ فيه بقايا روائح الأرض الخضراء.. يستحثّ الذاكرة بكل ما فيها من تفاصيل طويلة، تعبق بالبهاء وبالأحزان معاً.
أختي «نهاد» أرسلت لي قبل أيام عدة صور تشكيلات بديعة لمزرعة بيت عائلتها مع رفيق حياتها «صالح»، حيث حفلت بكل الفواكه التي نعرفها في القرية، وبالثمار التي استنبتها ذلك الرجل المحب للأرض وللأشجار، من كل مناطق العالم التي تصلح للحياة في مناخ منطقة الباحة.
منزلهم الحديث يقع بعيدًا عن القرية القديمة التي أتذكر فيها مخيال أمي، ولكنني أعلم أن هذا المنزل يطلُّ على أراضٍ زراعية لوالدي، كنتُ أساعد أمي فيها على إزالة الحجارة الصغيرة منها قبيل البذار، ثم بتنقيتها خلال عملية الحرث من جذور النجيلة التي تنافس سيقان القمح في امتصاص ماء التربة.
«نهاد» دعتني للاستمتاع معها وعائلتها بلذّة اقتطاف فواكه المزرعة ومناخ الصيف في القرية، واستعادة شجى الذكريات.
على خجلٍ لم أرد على الدعوة؛ لأنني أصبحت مسنّاً، أو كما تردد أمها/ أمي (زوجة أبي الثانية) «حمدة»: (وآنا قدني كبير وشايبٍ ما عد نقل شي)!
****
يا «نهاد»
سوف تغدو هذه الكتابة تداخلاً سردياً غرائبياً عن أمي «صالحة»، وعن والدتك وأمي أيضاً «حمدة» في عموم المعاناة الحياتية الصعبة، واختلاف التفاصيل التي عشتها مع الاثنتين، ولكنني لدواعي الكتابة الخاصة هنا سأركِّز فيها على والدتي «صالحة».
أتذكر أن أمي «صالحة» كانت تصرم (تحصد) الحنطة في هذه الأراضي، التي تقع قريباً من بيتكم، بينما كنت مع أخي مسفر نذهب مبكرين إلى «شعب غراب» لحماية ثمار موسم الفواكه في ذلك الشعيب، من غزو الطيور، ومن المارّة أيضاً، ونقتاد معنا عنزاً وصغيرتها للرعي.
انشغلت وأخي بألعاب الطفولة، حتى سمعنا ثغاءً عالياً للعنز وجفرتها الصغيرة، وحين فزعنا إليهما رأينا ذئباً ينشب أنيابه في رقبة الأم؛ فقمنا بقذفه بالحجارة الصغيرة وبصراخنا وخوفنا منه، حتى ترك العنز، والدم ينزف من رقبتها، فارّاً إلى الجبال.
ربما رآنا بعض المارّة في تلك الأثناء، وحين عبروا الطريق قريباً من مكان أمي أخبروها بالحادثة، فتركت «الصرام» وجاءت إلينا مسرعةً ومفجوعة. خفنا أن تعاقبنا فهربنا، ولكنها صاحت ببكاء حارق: لا تهربوا مني، تعالوا، فقد جئت لأحميكم من الذئب المفترس!
«أمي» انتزَعَتْ بالدلو ماءً من البئر، وغسلت دماء رقبة العنز بحنان، وأخذت قليلاً من أوراق نبتة «العثرب»، ودقّتها بالأحجار حتى سال رحيقها، ثم وضعتها على جرح رقبة العنز حتى توقف نزيفها، وعادت بنا جميعاً إلى البيت، وكانت تتحدث بفخر مع كل من قابلنا في الطريق بأنّ عيالها الصغار (النشامى) استطاعوا طرد الذئب قبل أن يفترس العنز وصغيرتها.
كنا نتغامز أنا وأخي من خلفها ونقول: نشامى!!
الذاكرة الطفلة لا تنسى، ولعل أجمل ما يبقى الآن منها هو منظر «الجفرة» الصغيرة وهي تنطح بقرنيها النابتين ذلك الذئب المتوحش لكي يترك أمها، بينما كانت الأم تقرّبها بقوائمها الأمامية نحوها؛ لتضعها تحت بطنها خوفاً من الذئب!
الفقر والجوع والخوف والذئب، و»أُمّان» تدافعان عن صغارهما بشراسة، رغم العناء والآلام.
يا للمعنى العميق للأمومة، ومحبة الحياة يا «نهاد»!
لقد كانت حياتنا صعبة حتى حدود الشراسة.. نعيش على الكفاف قرب خط الفقر، حيث لا يأتي موسم الحصاد إلا وقد قضينا خلال عام على كل أكياس الحنطة التي حصدناها في الموسم الماضي، فتقوم الأمهات بتجفيف سنابل القمح الناضجة في الشمس أو على النار، ثم يعمدن إلى طحنها في «الرحى» الحجرية مساءً، ثم يقمن بالعجن وإنضاج الخبز على نيران الحطب التي كُنّ قد جلبن أعوادها الكبيرة من أطراف الجبال البعيدة في المشرق، مثلما كُنّ ينزعن المياه من الآبار في الوديان البعيدة، ويملأن القـِرَب المصنوعة من جلود الماعز، ثم يحملنها على ظهورهن، صاعدات الجبال العالية حتى بيوتهن، مرتين أو ثلاثاً يومياً، لإرواء العائلة وتلبية حاجاتهم اليومية.
وهذه الوتيرة المتكررة للحياة القاسية عاشته الجدات منذ مئات السنين من قبل، مثلما مرّت من جحيمه أمي وأمك يا «نهاد»، وكل نساء منطقتنا أيضاً!
كانت أمي تغسل ثيابنا القليلة باستخدام أوراق العثرب التي تفرز مادة لزجة، تسهِّل عملية الغسيل، وأتذكر أنها ذات «عيد» لم تجد ما تشتري به قماشاً لي لثوب العيد، فغسلت «حوكتها» التي كانت تتلفّع بها على صدرها، وفصّلتها لي ثوباً خاطته بالإبرة بنفسها!
و مع كل ذلك لم نكن نشعر بشظف العيش ولا بالشقاء الذي نعيشه؛ لأن كل سكان القرى في تلك المرحلة كانوا يعيشون مثلنا تماماً.
وحيث يكون العدل متساوياً في الوجع والفقر، فلا عتب ولا غضب ولا أحزان!!
****
يا «نهاد»
راسلتني الشاعرة «فوزية أبو خالد» بعنفٍ عاطفي موغلٍ في القدرة على استيلاد الجماد نصاً للمشاركة في كتابة شيءٍ من رحلة الزمن البعيد مع أمي، ولكنني لم أشأ أن أنكأ جراح الحزن المبكّر وأنا في السادسة من عمري؛ لذا اعتذرت لها عن المساهمة في هذا الكتاب.
ذلك أنني أعلم جيداً أنه ليس بوسعي أن أحيل شجن استعادة ذاكرة علاقتي بأمي «صالحة» إلى مخيالٍ شعري شفيف، يشبه مياه خرير عيون الجبال في الربيع، من «شِعب سعادة» إلى «أم الحمام»، وإلى مسيال النهر في «الجهيد» (التي رضعتُ طعم مياهها جميعاً في صغري) مثلما أرى ذلك الشجن عسيراً عليّ لكي أصوغه في حالات كتابية تشبه ما فعله الكثيرون قبلي في سيَرهم أو في قصائدهم، مثلما أبدعه «محمود درويش» في حنينه إلى خبز أمه وقهوتها، أو مثل كتابات العشق التي نسجت تباريحها «فوزية أبو خالد» عن أمها «أم محمد الجزيرية»؟
****
ولكنْ
تولد أشياء غير متوقعة فتحرِّك ركام الذكريات، قاسيةً كانت أو ممتعة، فتكون الكتابة مناط حركتها، قراءةً أو إنشاءً.
الصور الجميلة التي وصلتني من أختي «نهاد» حرّكت سلاسل الذكريات، حين اشتبكت في المخيلة لحظات استعادة زمنٍ مضى مع أمي «صالحة»، ومع أمها «حمدة» (أمنا المشتركة) في المكان نفسه الذي تعيش فيه وعائلتها!
فكتبتُ جزءاً منها قبل ليلتين لأرسلها لها اعتذاراً عن عدم القدرة على زيارتها.
ولكنْ أيضاً..
يوم أمس قادتني المصادفات للاطلاع على بعض الصحف والقنوات التلفازية السعودية، فشدّني خبر إقامة حفلات غنائية للفنانة أصالة نصري والمطربة «أنغام» على مسرح القرية التراثية في «مرارة» بمنطقة الباحة.
بحثت عن تفاصيل الخبَر والقرية التراثية على الانترنت، فكانت خارطة الموقع تظهر لي أن قرية «العطاردة» التي درستُ فيها مرحلتي الابتدائية قريبة من الموقع، وأن مدينة بلجرشي تقع في الجنوب منه، فيما أشارت الخارطة إلى مطار العقيق في شرقه الشمالي!
كل هذه التفاصيل اجتمعت لتؤكد أن القدَر أو المصادفات قد تضافرت معاً للاحتفاء بهذه الأمكنة التي أعرفها منقوشةً في الذاكرة العميقة التي لا يمحوها الزمن ولا الحوادث ولا النسيان.
كان سهمٌ حادٌّ يخترق قلبي لتسيل بعده الرغبة في استعادة القليل من الذكريات التي عشتها مع أمي «صالحة بنت حنش» في هذه الأمكنة تحديداً.
لم يكن منزل زوج أختي ومزرعته ماثلين بأناقة هنا في «الشعبة العليا»، مثلما أن هذه القرية التراثية في «مرارة» لم تكن قد وُلدت في تلك الأزمنة البعيدة من عام 1950م، زمن مولدي التقريبي، ولا في سنوات طفولتي أو حتى كبري، ولم تصبح ممكنةً في الأفق الذي اعترتنا فيه فيما بعد سنوات القحط والجفاف والعنف والتطرف الديني، التي حاربت الأفراح والأغاني حتى قريباً من عهدنا اليوم!
قلت ربما المصادفة تحيي ذكرياتي «بأمي» فاختارت «المكان» رفيقاً لذكرياتي معها؛ لكي أستعيدها بحنان وفرح وألم؛ لذا كتبت للشاعرة «فوزية»: هناك سهمٌ ما اخترق قلبي، وشجعني على المساهمة معك في هذا المشروع، فكم تعطينني من الوقت للكتابة؟
قالت أمنحك شهراً، وبشكل خاص. فقبلتُ الكرم الشاعريّ، لكنني بعدها اشتعلت باللهب السحري، وبدأت الكتابة فوراً.
****
الآن فقط (يا علي ولد صالحة) حرّكتْ جماليات مزرعة زوج أختك «نهاد»، وبعدها قرية التراث الشعبي في «مرارة»، عنفوان رغبتك في الكتابة عن أمك، التي لم ترها في احتفالات الأعياد أو الزواجات وهي تشارك أو ترقص أو تغني أبداً، فلماذا تذكرتها الآن؟
ربما ليست سيرة «أمي» وحدها، ولا دلالات تسمية ذلك المكان الذي أخذ اسمه من «مرارة» مكابدة الصعود إليه من قرية «السقيطة»، أو من أطراف قرية «المفارجة»، ولكنها ذكرياتي التي برقت الآن حين رأيت اسمه على صحف الإنترنت، وشاشات التلفاز!
****
من على قمة هذا المكان «ريع مرارة» يمكنك أن ترى جبال قريتنا (محضرة) في الغرب البعيد، كما يمكنك أن ترى بعض بيوت قرية أمي (بني مشهور) شرقاً وهي تعانق السماء، وكانت أمي قد قررت أن تأخذني إلى والدها، الذي ينعم بقطيع كبير من الغنم؛ لكي أعيش معه، ويتقوى جسدي الهزيل بحليب الشياه ولبنها وسمنها.
غادرنا قريتنا عصراً، ووضعتني أمي على ظهر حمارتنا، وسارت أمامنا في طريقنا إلى بيت والدها، حتى ارتقينا إلى ذرى ذلك الجبل «مرارة»، الذي اخترقت أعاليه طريقٌ ترابية للسيارات، شقّتها التراكتورات.
كنت منبهراً برؤية سيارة عن قرب، لأول مرة في حياتي، تسير من أسفل الجبل نحونا، وكانت السيارة تئن من عناء الصعود بصوت مفزع لم نعتده. خافت الحمارة فركضَتْ بسرعة مجنونة؛ وسقطْتُ من على ظهرها، ولم أفق إلا على بكاء أمي واحتضانها لي، وأنا أرتعد خوفاً وجراحاً كثيرة.
(الآن، وأنا أستعيد ذكرى ذلك المكان ليلة البارحة، كنت أتساءل: يا ترى أين موقع القرية التراثية؟ هل يقع على سفوح الجبال في الغرب على يميني من ذلك المكان أم على يساري فوق هضبة منبسطة على أعالي الجبال التي تقع شرقه؟ لم أجد إجابة في صور تصاميم الموقع التي شاهدتها على الإنترنت، وقلت ربما أحتاج فعلاً لزيارة تلك القرية، صيف عامنا هذا!).
مضينا إلى منزل جدي، وباتت أمي معنا في بيت طفولتها تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي عادت إلى قريتنا، أما أنا فقد وجدتني أمشي بصحبة والديها (جدي وجدتي) إلى الجبال البعيدة شرقاً، ونحن نسير خلف قطيعٍ كبيرٍ من الغنم والبهم، وأمامنا «بعيرٌ» يحمل خيمةً مصنوعةً من شعر الماعز، يستخدمها البدو الرُّحَلْ، وفوقها أثقالٌ من احتياجات الحياة في مفاوز البادية. ومنذ البدء قال لي جدي بحنان: أنت «رجّال»، وعليك رعاية البهم، أما البقية فاتركها لي.
وبعد أشهر عدة من استقرارنا في «فروش العثرب» بدأ جدي يصطحبني معه في بعض الفترات إلى أسواق القرى لبيع بعض الأغنام والسمن، وكنا نبيت أحياناً ليلة عند أمي في قريتنا، أما هي فقد كانت تقطع طرق الجبال الوعرة وأماكن الرعي المتباعدة التي تعرفها جيداً؛ لكي تبحث عني وعن والديها حتى تجدنا في أماكن ترحّلنا خلف الأمطار والكلأ من «فروش العثرب» القريبة من جبل المسمر، إلى «تريش» و»بلاد بني هلال»، إلى «راس قملا» حتى «كظامة وادي بهر».
وبعد عام تقريباً عاد بنا جدي إلى «الغوقة» القريبة من قريته، حين قرّر إلحاقي بصفوف مدرستها الابتدائية.
كنت أذهب في الصباح إلى مدرسة وادي فيق، وأعود منها صاعداً الجبل العالي إلى جدي لأساعده في رعي صغار الغنم؛ لذا لم أتعلم خلال ستة أشهر أكثر من حروف الهجاء؛ وكان المدرسون يعاقبونني بتوقيفي بجانب حائط الفصل طوال كل حصص اليوم المدرسية!!
(ولكن..
يا لسحر تلك الحروف الهجائية التي غيّرت مسار دراستي وحياتي فيما بعد، حين عدتُ إلى قريتنا والتحقتُ بمدرسة فقيه القرية «القرعاوية». في يومها كنت الوحيد من أقراني الذي كان يعرف الحروف، مما أشعل في نفسي إحساساً محفّزاً وعميقاً بقدراتي الذاتية، وأعانني فيما بعد على التفوق في كل مراحل دراستي).
خلال مكوثي مع جدي طوال تلك المدة تعلمت كيف أذهبُ من موقعه إلى قريتنا «محضرة» لمدة ساعتين، عشرات بل مئات المرات سيراً على الأقدام، خلال الرعي، وخلال مرحلة الدراسة، وما بعدها، بصحبة أمي أو جدي أو بدونهما، وكنت أغادر مكان جدي إلى قريتنا كل عصر خميس؛ لأسعد بليلة مع جدتي لأبي «حسنة» وأمي وشقيق روحي الصغير مسفر الدميني، حيث كانت العائلة تستقبلني بفرح وابتهاج، لا يشبه اليوم إلا عودة أحد الأبناء من بعثته الدراسية في أمريكا إلى الأهل والأحباب.
وفي عصر الجمعة أعود إلى موقع خيمة جدي في تلك الجبال البعيدة.
****
ذكريات المكان أنيقة كفرح أمي حين عبرنا من «ريع مرارة» مع والدي إلى قريتها، وحزينة حين عبرتُها وحيداً في صباح باكرٍ وقارسٍ بدونها.
أبي (الذي لم أكن لصغري أعرفه من قبل) عاد من عمله في «أرامكو» بعد ثلاث سنوات من الغياب إلى قريتنا في الصيف، فاحتفى به أهالي القرية، مثلما دعاه جدي إلى قريته بني مشهور.
لبينا الدعوة، و كان أبي في منظر مهيب يعتمر «الجنبية» في وسطه، ويضع بندقيته «السوجن» فوق كتفه، ومضينا برفقة بعض الأقرباء في الطرقات التي خبرتُها جيداً حتى شفا «مرارة»، حين تكون قريتنا نائية في الغروب خلفنا، وقرية جدي تلوح لنا في أعلى الجبل المطلّ على «وادي فيق» الشهير بخصبه وخيراته.
أي جمال وعذوبة كان يشعُّ من محيا أمي ونحن نعبر من هذا المكان «مرارة» صوب قريتها وأهلها ومرابع طفولتها؟
كانت شمساً مشرقة على ربيع ناعس، لا أذكر أن رأيته على وجهها مثلما تبدّى في ذلك اليوم، وأنا أسير بجانبها خلف والدي ورفاقه!
ابتهج بنا جدي، وفي اليوم التالي أخذنا في رحلة بريّة شرق «بني مشهور» حيث المراعي والجبال العالية والطيور؛ فاستمتع أبي بصيدٍ وافر منها، عُدْنا به فرحين، حيث أعدّته أمي لعشائنا.
****
«ريع مرارة»، أيها الجبل الذي يزداد في الذكرى اشتعالاً.
بعد زمنٍ من عودتنا من ضيافة جدي بدت هناك بعض التوترات في علاقة أبي وأمي، وكانت (جدتي) والدة أبي تحاول أن تطفئ نيرانه، ولكنها لم تنجح. وعصر يومٍ كنتُ أرى أنهار الدمع تفيض من عيني أمي، ثم ضمتني أنا وأخي مسفر إلى صدرها، وخرجت من البيت ذاهبةً إلى منزل والدها.
سارت أمي في الطرقات نفسها حتى بلغَتْ مشارف «ريع مرارة» حين قابلها في الطريق أحد أقربائها وهي تبكي بحرقة.. فتلطّف معها في الحديث حتى أقنعها بالعودة معه إلى بيت والدي.
ولما دخلت البيت جمعتني وأخي واحتضنتنا وهي تنشج، وقالت لأبي: أريد أن أبقى مع أطفالي فقط، ولك الحق بأن تتزوج بأي امرأة أخرى، وسأكون أول من يفرح لك بذلك!..
ابتسم أبي، ورأينا أمي بعد أسبوع ترافقه ـ في كامل زينتها ـ إلى حفل خطوبته من إحدى بنات الأقرباء، ثم سارت الحياة طبيعية بينهما بعد ذلك، حتى يوم رحيله إلى عمله في «أرامكو».
في ذلك الصباح الباكر سوف أتذكر صورة وداع أمي لأبي التي لا يمكن أن تمحوها جبال الزمن، حيث كنت قريباً منهما.. قبّلتْ يديه طويلاً، ولم يشفِها ذلك، ثم انحنتْ وخلعتْ جزمته بسحابها الطويل، وقبّلتْ قدميه كثيراً، وانهارت بالبكاء!
****
آه يا «فوزية أبو خالد».. لماذا أعدتني إلى جروح الذاكرة والوجع والمرارة؟
سافر أبي، وكانت أمي حاملاً بأخي الأصغر «أحمد»، وولدته بعد تسعة أشهر بشكل طبيعي، لكن الألم الفاجع واتاها بعد ثلاثة أسابيع.
كانت تربّي عدداً من الدجاج، مثل غيرها من نساء القرية، وفي صباح أحد الأيام سمِعَـتْ أصوات الدجاج المفزعة، فعرفت أن الثعلب قد هجم عليها. نهضَت متعبة من فراشها، ورأته يحمل في فمه أطراف دجاجة سوداء لجارتنا، فركضَتْ خلفه بكل عنفوانها حتى استخلصت الدجاجة من فمه!
وبعدها أصيبتْ بنزيف، كما قالت لنا جدتي حين كبرنا، ولزِمتْ الفراش في مرضها القاتل، وكانت كلما ترى جدتي «حسنة» تقول بصوت خافت: عمتي يا عمتي.. ثم تشير لها بأصابعها الثلاثة.. وكانت تقصدنا نحن أبناءها الثلاثة!!
لم تكن في منطقتنا مستوصفات طبية ولا أطباء؛ لذا أخذت جدتي «شيلة» والدتي، ومضت بها إلى الفقيه «السدودي» في قرية «دار الرمادة»، فقرأ عليها، وأوصاها بأن تلفّع المريضة بتلك الشيلة، وأن تعطيها ملعقة سمن وبعض الأعشاب، ولكن أمي نامت على فراشها إلى الأبد.
حين صحونا كان البيت يشتعل بكاءً وعويلاً، وأخذتنا جدتي «حسنة» أنا وعمّي «علي المبعوث» خارج البيت، وقالت لا بد من ذهابكم إلى قرية بني مشهور لتخبروا أهل أمك بأنها مريضة، ولا بد من حضورهم حالاً!
مضيت (برفقة عمي علي) حزيناً باكياً في المسارب نفسها التي ألفتها من قريتنا حتى بلغت قمتك يا «ريع مرارة»، فتذكرت وجه أمي قبل عام حين مررنا من هنا باتجاه بيت جدي، وسالت الدموع حتى بلغنا قريتهم، وعدنا معهم إلى بيتنا لنرى أمي المريضة!
حين وصلنا كان الأقرباء قد أعدّوا النعش لنقل جثمان أمي إلى المقبرة، فبكيتُ كما لم أبكِ من قبل، ولا من بعد، ولم أعد أتذكر من والدتي إلا نعشها مرفوعًا على الأعناق باتجاه المقابر أسفل الوادي!
كان الفقـْدُ جنازةً، وكان الألم نزيفاً، لا يمكن لطفلٍ في عمري احتماله، لكن جداتي وخالاتي احتضنني بحبٍ وبكاءٍ وحنانٍ لا حدود له.
****
رعتنا جدتي الحنونة «حسنة» والدة أبي بكل حنان الدنيا، أما أخي الرضيع أحمد فقد أخذته خالتي «عزة» معها إلى قريتهم في بني مشهور لمدة عامين، حتى عاد أبي من السفر، وتزوج امرأةً أخرى غير تلك التي خطبها من قبل.
الآن أصبحنا ثلاثة أيتام في رعاية جدتي وزوجة أبي «حمدة» التي أصبحت أماً لنا حتى أنني لم أعد أرى في وجهها إلا إشراقة وجه أمي تماماً.
****
آه يا جبل «مرارة»، كم أشرقَت فيك الذكريات، وكم ذبُلَت، فهل أصبحتَ فعلاً موقعاً للقرية التراثية في الباحة؟
كتبت لأختي نهاد: لماذا تدعونني للاستمتاع بفواكه مزارعكم، ولم تدعونني لحضور حفل «أصالة» ومحمد عبده في أعالي جبل مرارة؟
وبعد يومين أجابتني: إن القرية التراثية تقع في قرية «مراوة» في منطقة زهران، وليست في ريع «مرارة» الذي تعرفه جيداً يا علي!!
وبعد الصدمة قلت في نفسي: ربما كان ذلك جيداً لكي يبقى مكان «مرارة» كما عهدته، حياً في الذاكرة بفرحِهِ وأوجاعه، ونهاراً يذكّرني بوجه أمي، وبزمن الطفولة البعيد، حين كنت أعبر من هنا يا «مرارة»!!
... ... ...
* معظم الصور التقتطها عدسة الفنان عثمان محمد الغامدي
** **
علي الدميني - الظهران - 15\7\2019م