كثير من الروايات العالمية التي احتلت مكاناً بارزاً وصُنّفت ككلاسيكيات مرجعية جسدت في محتواها الجانب السوسيولوجي، حين سردت مشكلات اجتماعية كالطبقية وما ينتج عنها من مشكلات فرعية من بطالة وفقر وصراع قد يؤدي إلى خلق حراك وتغيير كما في نتاج فيكتور هيوجو الذي عكس طبيعة المجتمع الفرنسي في القرن الثامن عشر إبان سيطرة الكنسية وتوظيف الدين لأجل السلطة. وأيضاً ما تناوله دستوفيسكي من مشكلات كالصراع القيمي وحاجات الفرد في المجتمع الروسي في القرن الثامن عشر. بالإضافة لصورة المرأة البريطانية التي كانت حاضرة دائماً في روايات جين أوستن فعكست لنا الدور الذي كانت تحتله المرأة والنظرة الدونية لها آنذاك في القرنين نهاية السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر.
أما في الروايات العربية فلطالما تمظهر أسلوب الحياة وشكل البيئة في إنتاج إحسان عبد القدوس الذي نُقلت أعماله لعدة لغات. واتخذ نجيب محفوظ فضاء (الحارة) لإرساء فلسفته وتمريرها عبر شخوصه باعتبار الحارة مجتمعاً محلياً له خصوصيته وقيمه الحاكمة وأساليب تنشئتة وضبطه غير الرسمي في المجتمع المصري. وتناولت الكثير من الروايات إشكاليات الهوية والانتماء والمواطنة التي خلّفها الاستعمار والاحتلال فتمثّل ذلك عند مالك حداد وأحلام مستغانمي في المجتمع الجزائري وغسان كنفاني وإبراهيم نصر الله في المجتمع الفلسطيني.
أما الروايات السعودية والتي بدأ ظهورها في ثلاثينيات القرن الماضي وتأثرت بمد التحولات الناتجة عن الطفرة الاقتصادية بعد اكتشاف النفط، من تحول في البناءات والأنساق وما يتبعها من قيم فرضتها الحداثة زاحمت القيم التقليدية، وأيضاً ظهور التيارات الفكرية السعودية وحدوث الصراعات فيما بينها أسهم ذلك في خلق تنوع في الإيديولوجيات التي يتبناها الروائيون.
هذا التجسيد يطرح عدة أسئلة؛ لأي مدى يعكس الأدب الواقع الاجتماعي؟ وهل يمكن للأدب أن يوفّر للسوسيولوجيين المعطيات الكافية لدراسة المجتمع من خلال الأعمال الأدبية؟
يعتقد جان بيلمان نويل في نظرته الفاحصة للأدب أنَّ أنجع أسلوب لتدمير الأعمال الأدبية هو محاولة تفسيرها وفق الواقع الاجتماعي، لإيمانه باستقلالية العمل الأدبي كعمل أدبي ولا شيء أكثر من ذلك، وأنَّ ما يحكم النص المكتوب هو لا وعي المؤلف ولفهم العمل وتفسيره يجب أن يُقابل بلا وعي المتلقي وأن يتم النظر له في حدود فضاء النصيَّة وليس الواقعيَّة.
وهذا على الضِّد تماماً مما تبناه الانعكاسيون أمثال لوكاش ولوسيان غولدمان اللذين كانا امتداداً لفكر كلاً من هيجل وماركس حول العلاقة بين البنى التحتية والبنى الفوقية أي علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج مع الثقافة والفنون والفلسفة، حيث أوضح لوكاش أن هذه العلاقة متبادلة ومتفاعلة مما يجعلها علاقة جدلية قائمة على التأثير والتأثر، بمعنى أن أي تغيير في البناء الاقتصادي والاجتماعي يؤدي إلى تغيير شكل في الوعي أو مجمل البناء الفوقي الذي يعود فيؤثّر في البناء التحتي من خلال تثبيته أو تعديله أو تغييره، فالواقع المادي في تفاعل مستمر مع الأفكار سواء في إنتاجها أو إعادة تشكيلها.
من الطبيعي هذا التضاد الصارخ في النظر للأدب على اعتبار أن بيلمان ولج لحقل الأدب مستعيناً بمفاهيم علم النفس للفهم والتفسير، أما البقية فاستعانوا بالمفاهيم السوسيولوجية لتقديم تصوراتهم التفسيرية للأدب.
وحين نُجيل النظر في الطروحات السعودية في هذا المجا، نلحظ أنه يندر للسوسيولوجيين السعوديين طرقهم للمسائل ذات الطابع التجريدي التي تنطلق من الخصوصيات إلى تصوّر العموميات التي تحكم حدوث الفعل الإبداعي - بما فيها الإنتاج الأدبي- باعتبار أن المبدع سواء كان كاتباً أو مؤلفاً أو فناناً وغيره ..فاعلاً اجتماعياً، حيث يركز معظمهم على مشكلات المجتمع ذات الطابع الإحصائي - ورغم أنها تقع فعلاً تحت تخصصه - إلا أنه لا ينبغي أن تتوقف حدود السوسيولوجيا السعودية عند هذا الحدّ، بل تتجاوز ذلك لتوظيف المهارات الفلسفية لدى الباحث لخلق المسائل البحثية التي تهتم بتقديم تصور تفسيري ولا تنتهي عند تقديم الحلول فقط.
** **
لمى محمد البدنه - باحثة في علم الاجتماع