ارتبط التفكير البلاغي منذ نشأته بثلاثة مجالات لم يكن من السهل أن يمر عبر تاريخه دون العبور من خلالها؛ وهي (علم اللغة -علم الاتصال - الإعلام )
هذه الحقول وإن لم تتبلور تسميتها عبر تاريخ البشرية لتستقر على الهيئة الاسمية التي عُرفت بها الآن إلا أن البلاغة نمت في ظلها الطويل عبر التاريخ.
فالخطاب أياً كانت الصورة التي يأتي عليها له تحليله الخاص الذي يرتكز على أهم عناصر علم الاتصال (مرسل - مرسل إليه - رسالة)، فالكلام لا ينشأ من مرسله إلا ليوجه رسالة لفئة معينة الهدف منها توصيل المحتوى المقصود بطريقة تواصلية جيدة تحدث تغييراً مقصوداً عند نشأة الخطاب وكل هذا لا يمكن أن يتم بمعزل عن علم اللغة بكافة فروعه والبلاغة برغبتها الأولى في الإبلاغ بطريقة مقنعة، وهي بهذا تلعب دوراً إعلامياً لاسيما على المستوى الجماهيري.
يُذكّرنا التاريخ بقصص كثيرة عن هذا التأثير الجماهيري، ومن ذلك قصة بني حنظلة بن قريع، الذين كانوا يشعرون بالمهانة عندما يُنادون باسم (بنو أنف الناقة) في الجاهلية، للقصة التي ذكرتها لنا كتب تاريخ الأدب؛ من أن أباهم نحر جزوراً وقسَّم اللحم فجاء حنظلة وهو صبي ولم يجد إلا الرأس، فأخذ يجره؛ فقيل له: ما هذ يا حنظلةا؟ فقال: أنف الناقة. فلقُبِ به.
ظل بنو( أنف الناقة) على هذا الحال يعيرون بالاسم، حتى سمع بقصتهم الحطيئة وكان بمثابة أحد المنابر الإعلامية في عصره، فتغير الموقف الجماهيري عندما امتدحهم بقوله:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يسويَّ بأنف الناقة الذنبا؟!
فعزَّز رأيه بأوفى أدوات البلاغة حتى إنه أوقع المتلقي في حرج الوعي؛ عندما وصل إلى مرحلة رفيعة من الحجاج، واختار الاستفهام الاستنكاري (ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا؟!)، فعمل على تشكيك المتلقي في وعيه حتى يضمن سهولة إحلال الرأي الذي يود إقناعهم به لأن ما يستنكره هو أمر منطقي؛ فالأنف يعني المقدمة والأنفة والتقدم وقس على ذلك ما شئت من حقول اللغة ودلالاتها التي تبين أهمية الأنف مقارنة بالذنب.
لقد بلغت حجته مبلغها حتى إن الاسم بقي، ولم يغيّره من كانوا يشعرون بالمهانة عند ذكره؛ لأن الموقف العام والشخصي قد تغيّر، فالآن لديهم استدلال يبهت كل حجة.
لقد استطاع هذا البيت تغيير الموقف فبعد أن كان اللقب مدعاة للشعور بالإهانة؛ أصبح مدعاة للفخر، ولم يكن لهذا الموقف أن يتغيّر لولا استثمار الشاعر لبلاغته، وقدرته على الإقناع بطريقة منطقية يصدقها العقل، حتى راجت هذه الأبيات عبر العصور بكل تداعياتها.
لقد أسهمت ملامسة الواقع الاجتماعي والسياسي والتعامل مع قضاياهما عبر الإنترنت في توظيف أدوات البلاغة في الخطاب الموجه؛ ليكون أكثر تأثيراً، ولا أدل على ذلك من هذه التحولات التي رعاها خطاب (تمكين المرأة) مؤخراً على المستوى المحلي، واستخدام الفكر الواعي؛ لنفض الغبار عن بعض المعتقدات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وما رفع الوسوم (الهاشتاقات) إلا نوع من الممارسة اللغوية في التأثير على الجماهير، كذلك استخدام الرموز من علماء ومثقفين لتحريك الوعي الجمعي باتجاه بعض الحقائق التي كانت مغيبة بالسكوت عنها، أو بإخفائها. لقد أصبح من السهل على كل من يمتلك زمام البلاغة أن يمرر قناعاته عبر قنوات التقنية سريعة الوصول، وهذا الوصول سلاح ذو حدين، إن لم يوظف بشكل جيد، ولم يرُاقب بشكل جيد أيضاً، فسحر البيان مع سهولة الوصول للجمهور أصبحت تشكل خطورة على المجتمعات كافة، فيكفي لتحريك الجمهور، والتأثير في قناعاته قلم بليغ، ولسان بليغ.
** **
- د. زكية بنت محمد العتيبي