حسن اليمني
«الارتفاع فوق مطامع الدنيا يحتاج إلى جناحي نسر، لا إلى جناحي فراشة» مقولة رائعة لكن جناحي طائرة خاصة منطقيا وعقليا أكبر من جناحي الصقر وهي بنفس الوقت أصغر من جناحي فراشة بالمنظور القيمي والمبدئي فكيف ذلك؟
إن التبصر في عمق الوجدان الإنساني كلما انغمس أكثر في داخله توضحت وصفت له الرؤية أكثر وأدق وأصدق, لكننا نمارس خداع الذات والهروب من المستحقات إما لضعف أو لضعف، نضعف كثير من الأحيان حين ندرك أن التمسك بالحقيقة أمر مكلف لا قدرة لنا على احتماله ونضعف أيضا حين يجذبنا إغراء النفس وشهواتها، نصدق مع أنفسنا حين ندرك ضعفنا فنصمت في الغالب أو نهمس بأدب يحذر الصدام ونصدق مع أنفسنا أيضا حين ندرك ضعفنا وننجذب للحياة ومتعتها، قد يفسر ذلك بالنفاق أو الرياء أو ازدواج الشخصية أو انفصامها، كل ذلك قد يصح وقد لا يصح، فدهاء العقل البشري قادر على خلق حقائق ومثل وقيم ومبادئ تناسب الرغبات والأهواء، نتزلف القوي ونرتقي مع الضعيف كطبع بشري وحيواني ونباتي أيضا، الإنسان فقط هو الذي ينكر ذلك ويخفيه لعلمه وإدراكه أنه بين أقوى وبين أضعف فيطلب السلامة والأمان بينهما ليكون منهم وفيهم.
إن هذه الحقيقة المخلوقة في طبع الخلق ومنها الإنسان هي من السلع التي تباع ولا تشترى لكن تجارتها رائجة فوق الأرض وتحت السماء، سلعة لها عدة أسماء وصفاتها واحدة، تزلف، نفاق، رياء، أصولية، انتهازية وربما دناءة نفس وإلى آخره ومما ينكره الإنسان ولا يقبله حتى وإن خدش وعيه صدق الحقيقة فيصوره بالأدب والاحترام والتقدير أو التحايل المباح للمنفعة وإلى آخره أيضا مما يلطف الفعل ويخفف ثقله على النفس ويمحو حتى أثره، وهكذا في الغالب يدرك الإنسان الحقيقة بعقله وينكرها ويقفز عليها بطمعه ليخرج من وضع معقد مع النفس قد يعثّر خطواته في الحياة والدنيا.
صاحب الدين وصاحب السياسة هما أخطر أنواع الإنسان المخادع وأقدرهم على السيطرة والتأثير، يسوقون كماً هائل من العقول خلفهم ويحملونهم في بحر أحلامهم وخيالاتهم ليكونوا أدوات تحقيقها بقناعة ورضا بل وفخر واعتزاز، فبالدين والسياسة تقود الأمم وتدخل في صراعات وحروب وقودها البشر وآخر من يطوله الأذى صاحب الدين وصاحب السياسة.
إن تفكيك حقيقة الطبائع السلوكية في الخلق أمر غاية في التعقيد لكنه في نفس الوقت بالعقل والمنطق واضح نقي في عين العقل المتأملة، ولا أحد فينا بني الإنسان يخلو من شيء من ذلك فهي طبيعة خلقية في سلوك الخليقة في عراك الدنيا والحياة من أجل البقاء وتأمين السلامة والرفاه، وقد يسخر البعض من كون أن سلوكاً معيباً يصير أداة للسعادة والرفاه والأمن والسلامة لكن هذه هي طبيعة العقل حين لا تقيده قيّم أو مبادئ، لا بل صار ما يعرف بـ(البرغماتية) صفة من صفات التمدن والتحضر الإنساني، نعم هكذا وهي في الواقع ليست إلا غلاف يحتوي النفاق والرياء والانتهازية وإلى آخره، وفي حقيقة الأمر أن التمدن والتحضر الذي ارتفع بهذا المصطلح إنما هو تحضر مادي دنيوي خلقته فلسفة العقول وبنات الأفكار وشرعته «المكيافيليه».
نعود لجناحي الصقر والصقر قوة وجناحي الفراشة الرقيق الصغير الذي يحوم حول الضوء ليحترق وهو ضعيف بطبيعة خلقته، وبين القوة والضعف في النفس البشرية قد ينزلق الإنسان إلى ما ينهى عنه رغما عنه أيضا وهو أمر معيب لكنه من طبيعة الخلق ولو ذكرت وبينت وكشفت الأمر للمعني به لارتبك وتلعثم ثم أنكر وبرر، فقط كن واعياً.