أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما من رجل يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول عند فراغه من وضوئه: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله: إلا فتحت له ثمانية أبواب من الجنة؛ فيدخل من أيها شاء).
قال أبو عبدالرحمن: هذا وعد حق واقع لا محالة، ولا خلف فيه لمن ختم الله حياته بالإيمان؛ فمن سبق في علم الله أنه سيكفر ويحبط عمله: فلا بد من أحد احتمالين لا نقطع بأحدهما: أولهما أن ذلك الرجل لا تفتح له أبواب الجنة لسابق علم الله بكفره.. وثانيهما أنها تفتح وهو على وعد الله بشرطه بأن يموت مؤمناً؛ فإن مات كافراً حجب الله ما فتحه له وقت إيمانه؛ لأن وعد الله مشروط.. والبرهان على ضرورة أحد هذين الاحتمالين: أن أحكام الشرع تؤخذ من جميع النصوص في المسألة؛ فلا يؤخذ من نص ويترك آخر؛ لأن شرع الله كله حق واجب الطاعة، وواجب الإيمان به، وليس بعض منه أولى من بعض في ذلك، وقد صح النص على أن الجنة محرمة على الكافر؛ فقد بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أوس بن الحدثان) أيام التشريق منادياً: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن.. صح ذلك في صحيح مسلم ومسند أحمد وغيرهما.. وفي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-؛ وهو حديث صحيح: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عن مناد ينادي في الآخرة: «إن الجنة لا يدخلها كافر.. ألا إن الله حرم الجنة على كل كافر».
قال أبو عبدالرحمن: فمن كان من عصاة المؤمنين، وقضى عدل الله بتعذيبه لعصيانه غير المخرج من الملة: فإنه سيدخل الجنة من أي الأبواب الثمانية كما يشاء بعد تطهير الله إياه؛ لوجود المقتضي من حديث عمر -رضي الله عنه- المذكور آنفاً إلا أن يوجد مانع نصي لمعصية معارضة تمنعه من الاختيار؛ فإنه بعد التطهير سيدخل من باب واحد محدد له؛ فكل وعد الله على تحقق الشرط من وجود المقتضي وتخلف المانع؛ وفتح أبواب الجنة في الدنيا عند حالة كما في حديث عمر -رضي الله عنه-، أو في زمن؛ فكل ذلك بشرى للمؤمنين.. وقد جاء الحث على صيام يومي الاثنين والخميس، وخلق الصائم كما يجب أن يكون: أمتع وأبدع اعتقاداً وقولاً وفعلاً واجتهاداً منذ حالة فطره، وقد صح الحديث عند مسلم وغيره من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (تفتح أبواب الجنة في كل يوم اثنين وخميس).
قال أبو عبدالرحمن: وما يدرينا أن لهذا الفتح أثراً على العامل في طاعة ربه من روح وريحان في طيب النفس، وسكون القلب، وحصول لذة الإيمان، والفرح أنساً بالله سبحانه وتعالى ونعيمه!!.. وأهل الجنة معروفون من قبل خزنتها كما في سورة الزمر، وأهل الجنة يعرفون مساكنهم، ويهتدون إليها؛ لأنه عرفها لهم كما في سورة الزمر، وما يحتمل من الآية في سورة يونس؛ إذ يهديهم بإيمانهم؛ بل صح عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «والذي نفس محمد بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمسكنه في الدنيا»؛ ولا تكون هذه الهداية الكونية إلا بإدلاج ووعي بما يقرب إلى النار من شهوات محببة للنفس إذا لم يلجمها يقين العقل المستقر إيماناً في القلب، ووعي بما يقرب إلى الجنة من تحمل مشقة تذللها العزيمة كدفء الفراش عندما يؤذن للفجر في شدة البرد، وكصلاة الظهيرة في حر الهجير، وكالسماح بالمال في النفقة الواجبة والمستحبة؛ وليست كل نفس يسهل عليها السماح إلا ببرد اليقين وعزيمته.. وقد صح عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)؛ ومهما شمر العبد في طاعة مولاه: فهو في حال صحته خائف من شر ما لم يعلم، ومن تخلف القبول، ومن أي شيء محبط للعمل نسيه وأحصاه الرقيبان من الملائكة -عليهم سلام الله وبركاته-؛ فإذا انقطعت به الأسباب، وفقد قدرته: فليس أمامه إلا الدعاء، وإحسان الظن بربه؛ ولهذا صح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قوله: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل.. ألا إن سلعة الله غالية.. ألا إن سلعة الله الجنة)؛ ومع تجدد النعيم من الله سبحانه وتعالى، وتجدد الشوق إلى النعيم في أنفسهم، وارتفاع الملل الذي يجدف به المجان الذين يظنون أن وضعيتهم في الدنيا مشاعر، وسلوكاً: هي نفسها المشاعر في الآخرة؛ فباءوا بالخسران؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما يمنح المؤمنين نعيماً آخر تتمتع به ملائكة الرحمن عليهم السلام؛ وهو التسبيح لله؛ فذلك من نعيمهم؛ فقد صح عند مسلم وغيره: أن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عن أهل الجنة: يكون طعامهم جشاءً ورشحاً كرشح المسك.. يلهمون فيها التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس.
قال أبو عبدالرحمن: لا ريب أن الجشء المعطوف عليه هو الرشح؛ وهو العرق يكون في صفة المسك؛ لأنه (بضرورة النصوص الكثيرة): لا نتن في الجنة؛ ولأن الله ذكر الجشء، ولم يذكر له وصفاً؛ وإنما ذكر وصف المعطوف عليه وهو الرشح؛ وإذ لا يوجد غير صفة واحدة، وإذ كان الجشأ يخرج من الفم كخروج الرشح من الجسم: فقد ترجح أن المسك صفة الجشء أيضاً، وقد ثبتت بضرورة النصوص على أنهم لا يأكلون إلا طيباً، ولا يشربون إلا طيباً، ولا يتغوطون ولا يبولون؛ فليس عندهم فضلات رديئة؛ فالرشح إذن أخو الجشأ في مسكيته؛ وإلى لقاء في السبت المقبل إن شاء الله تعالى،والله المستعان.