د.محمد بن عبدالرحمن البشر
هو أحد الملوك الذين توالوا على حكم الأنبار من اللخميين، وهم خليط أزدي من بن نصر وبني عباد، وقال ابن الكلبي إن فاران بن عمرو بن عمليق، وهم بطن بالحيرة يقال لهم بني فاران، كانوا حكاماً هناك. وقد خرج الملك منهم وعاد إلى بني نصر الأزديين فملكهم امرؤ القيس البدن، وهو محِّرق الأول، الذي ذكره الأسود بن يعفر في قوله شطراً، وماذا أؤمل بعد آل محرق، وهو أول من حرق بالنار عمرو بن الطوق، وأقول: إنه قد لقب بالمحرِّق لأنه ابتدع الحرق بالنار عند العرب في ذلك الزمان، وهو أمر مريع لا يقدم عليه إلاَّ ذوي القلوب القاسية.
وصل الحكم إلى النعمان السائح، وهو من باني الخورنق والسديم، القصران المشهوران، وأمه من بني ثعلبة، ويقال إن مدة ملكه منذ أن تولى الملك حتى ساح في الأرض ثلاثين سنة، وحيث، العراق قريبة من الفرس، ولها علاقة مد وجز معها، لذلك كانت في نزاع دائماً مع من يحكم فارس، فقد كانت تعبث فارس بتلك الديار بين فترة وأخرى، لهذا فقد كانت علاقته وثيقة مع يزدجرد بن يهرام بن شابور، مدة خمس عشرة سنة، وهي المدة التي كان فيها يزدجرد حاكماً على فارس، في ذات الوقت الذي كان فيه النعمان على قبائل العرب القاطنة هناك، كما قضى النعمان نحو أربع عشرة سنة وثمانية أشهر أخرى، في زمن حكم بهرام جور بن يزدجرد، ولهذا كان عليه أن يتعامل مع هاتين الشخصيتين بما تقتضيه الحال، وما تتطلبه الظروف.
كان النعمان من أشد ملوك العرب نكاية في الأعداء، وأبعدهم مغارة، وغزا الشام مراراً كثير، والحقيقة أن غزو الشام تخلله جور وظلم وسفك للدماء وقتل غير مبرر، وأكثر السبي وجمع الغنائم، وسلب أموال الناس، فأكثر المصائب في أهلها، وكان في العادة يغزو، ومعه كتائب ينفذها الملك الفارسي معه، إحداها يقال لها دَوسر، رجالها من تنوخ العرب الأزدنيين، وكتيبة الشهباء، ورجالها من الفرس، وكان التوافق بينهما في الغالب قائماً، وكانت العرب أشد قتالاً عند مواجهة الأعداء، أو المظلومين الذين تم غزوهم بلا سبب سوى السبي وجمع المال، وتوسيع رقعة السلطة، ونهب ما يمكن نهبه.
وقد كان النعمان صارماً حازماً ضابطاً لملكه كما يقول صاحب تاريخ سني ملوك الأرض، وقد جمع من المال والخيل، والرقيق ما لم يجتمع لغيره من حكام الحيرة الذين سبقوه، وقد جمعها خلال غزو من حوله، وظلم من تحت يده، بمعاونة من الفرس، ولاشك أن الفرس يأتيهم نصيبهم من الغنائم بأنواعها، وقد اعتادوا على استغلال الأطراف الأخرى لتحقيق مآربهم بأي طريقة كانت.
كانت الحيرة آنذاك، مطلة على الفرات، وقد بنى النعمان السائح قصره المسمى الخرونق على مقربة من النهر، وفي العام الثلاثين من حكمه، جلس في قصره ونظر إلى الساحل الغربي من النهر، فرأى مدينة النجف، وما بها من بساتين وارفة، ونخيل فائقة، وجنان زاهية، وجداول جارية، ورأى النهر وهو يجري في خيلائية، ينساب ماؤه، كأنه ثعبان زاحف، ثم نظر إلى الجانب الشرقي من القصر وذلك في فصل الربيع، فرأى ضوء الشمس يسطع على محيا الصحراء، ليزيدها بريقاً، ورأى رعيته ورقيقة منتشرين في الصحراء يلتقطون الكمأة رويداً رويداً، كما لمح رعاة الإبل يسوقون إبلهم بين المروج الخضراء لتأكل مما طابت به السماء، وأبصر صيادو الظباء والأرانب يحملون أقواسهم ونبالهم، وقد تكالبت عليهم الظباء فلا يدرون أي منها يصيدون.
وعلى سطح النهر رأى الصيادين، وقد رموا بشباكهم في النهر، وكل شبكة قد امتلأت بما لذ وطاب من أنواع السمك المستطاب، ورأى الغواصين، وهم يغوصون باحثين عن اللآلئ والأحجار الكريمة، ونظر إلى الحيرة دار ملكه، وارتسمت في مخيلته ما بها من خيول وأموال، ورقيق وعتيق، ورعية تخدمه في نومه وعندما يفيق.
جمع كل تلك المناظر البهية، وعرضها على عقله، وفكر وتدبر، وقال بنفسه أي نعيم هذا لولا أنه زائل، وسائر إلى غيري بعد رحيلي، ومالي ولهذا الملك الذي لا أنال منه إلاّ ما أطعمه وألبسه وأسكن فيه، ثم أتركه لغيري، ألهذا خلقت؟ وقتلت وظلمت وقسوت، ومالأت الفرس، وحاربت بني جلدتي لأجلهم، ولأجل نفس تاركة هذا الملك بعد حين، وكأنه قد سمع قول فرعون «أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي» فخشي أن يكون مآله مآل فرعون.
جمع النعمان حجابه وحراسه، ونحاهم عن بابه، فلما جَّن عليه الليل التحف بكساء، وساح في الأرض، فلم يره أحد، وفيه يقول عدي بن زيد يخاطب النعمان بن المنذر:
وتدبر رب الخورنق إذ
أشرف يوماً وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما يملـ
ـلك والبحر معرضاً والسدير
فارعوى قلبه وقال فما غبـ
ـطة حي إلى الممات يصير