«الجزيرة» - محمد المنيف:
مع أن علينا الترحم على كل من يرحل عن هذه الدنيا إلى جوار ربه، إلا أن هناك من نفتقدهم لقربهم لنا قرابة رحم أو صداقة أو عمل؛ وقبل أيام فجعت الساحة التشكيلية بوفاة أحد روادها البارزين المستحقين للفقد والحزن.. عوداً إلى ما يتمتع به يرحمه الله من رقي الأخلاق وتميز الإبداع وعلو هامة الثقافة والتأهيل والإخلاص لإبداعه.
رحل الفنان عبدالله الشيخ اليحيى بعد أن أبقى إرثاً فنياً يستحق أن يدرس لندرة مضامينها وعلو مستوى تنفيذها وعمق ما تحمله من أبعاد، جمع فيها عصوراً ومواقف وأحداث، أبدعها دون محاكاة، أو مباشرة، حيث كان ينوع طرحه بين الرمزية والتجريدية التعبيرية التي تتكئ على دراسة أكاديمية ومشاهدات لا تقل عن الدراسة، فقد شرب الفن مع مياه دجلة في فترة طفولته وشبابه في الزبير بدراسته الأكاديمية في معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1959م أكملها بدراسته الجامعية في إنكلترا وتخرج عام 1965م.
أسلوب اختصر لمسافة
بين الزبير ونجد
لم يكون الفنان عبدالله االشيخ اليحيى، إلا عاشقاً للوطن فهو من مواليد الزبير لكنه يحمل الجنسية السعودية التي تعلق بها منذ أن بدأ يعرف انتماءه الوطني مع ما يحمله من حب لمدينة الزبير التي يكن لها الحب والذكريات الجميلة المدينة التي تعج بأهل نجد فقد تشبع بحكايات والده التي يسمعها في مجالسة التي لا تنقطع يجتمع فيها أهل الزبير النجديين، ومن يأتي زائراً أو طالباً للعمل، حكايات تشكل صوراً مرئية في عقله الباطني عن نجد، أو ما تحكيه والدته عند النوم عن نجد وأهلها مع ما كانت تتسم به أنماط العمارة في الزبير ونخيلها ما يقارب واقع نجد.. هذه المحصلة الخيالية وما يوثقها بصرياً كانت مصادر إلهام للوحاته في مراحل تجاربه؛ حيث بدأ بجمع المحيطين والبيئتين نخيلاً وبيوتاً وشخوصاً وحياة صحراوية وقروية، لا تخلو من الأساطير مع ما أضفاه من الحروفية لبعض أبيات من الشعر العربي وصولاً إلى ما تلفاه من مشاهدات للفنون الإسلامية ليصل ببحثه حسب المواقف والظروف مختزلا الكثير من تجاربه السابقة.. أما الخطوة التي لفتت النظر كونها مغايرة للسابق فقد كانت خطوة التأثر بحرب الخليج الثانية في العام 1993م، التي جعلته يبحث في تأثير الآلة الحربية أو البترول على الإنسان وما أحدثه من انعكاسات على حياة الإنسان فطعم لوحاته بعناصر متعلقة بالصناعة والحرب.
فنان يرسم الأبعاد الإنسانية ويغمس فرشاته في ضوء القمر
تشرفت بدعوة من الراحل عبدالله الشيخ للمشاركة مع عدد من النقاد والكتاب المشهود لهم عربياً ومحلياً للكتابة في إصدار معرضه عام 2007 بدعم من وزارة الثقافة والإعلام، جاءت المشاركة كالتالي: (لوحة مربعة كانت أو مستطيلة بلا حدود أو برواز، المهم أن تكون لوحة بما تحويه من ألوان وخطوط وقضية إبداعية.. هاجس وتوجس وتفاعل مع ردود فعل مشحونة ومسكونة بالإبداع. أما غير ذلك فلن تكون سوى عبث وبعثرة. لم تعد اللوحة قطعة تجميل ذات مكياج وطلاءات، ومفردات مغرية، في جزء من غرفة نوم، أو في زاوية لقاعة جلوس تطل منها امرأة حسناء ذات ابتسامة محرضة للنظر والإعجاب، بل أصبحت اللوحة شيئاً من الفنان ووعيه ومعاصرة تحمل في طياتها آلاماً وآمالاً وطموحات وموروثة فكرية شاهدة لنوعية ذلك الإنسان، كيف يعيش وكيف يتفاعل وكيف يفكر. الأرض كانت بداية الإنسان، الزمان: الأشياء أفراح.. وأتراح وألوان، تتقلب بتقلب طقس المشاعر ومساحات لا تقيدها حدود بقدر ما تنطلق كحصان جامح أو كفراشة ناعمة ترفرف بجناحيها دون ضجيج ليقدم بوحه لا يسمعه إلا من يملك وجداناً مملوءاً بعش الجمال مؤطراً بمختزل ثقافي. فالفنان عبدالله الشيخ يجمع الإبداعات في إبداع واحد اللوحة بالنسبة له صفحات كتاب أو قصة أو قصيدة وربما مسرح أو فيلم سينمائي تظهر معالم الواقع فيه دون ابتذال أو سذاجة بشيء من الرومانسية الحالمه تشاهد أبعادها وخفاياها من بين مساحات من الألوان والخطوط يغمس فرشاته في ألوان قزحية ويسدل عليها إيحاء محل بأضواء القمر.. فنان عشق الرسم واستلهم عناصره من المعلم في مرحلته الابتدائية ثم استمر حتى النضج في معهد الفنون الجميلة ببغداد ودراسة التصميم في إنجلترا وبعدها مرحلة الخبرة والعطاء المتواصل والحضور المتألق.
الفنان عبدالله الشيخ وضع بصمته الإبداعية في وقت لم تصل فيه أصابع الكثير إلى قماش الرسم رغم تواجدهم الإعلامي وحصد العديد من الجوائز وأوجد له اسما في الساحة المحلية والعربية.
ما أبقاه الراحل من كلمات
كتب الراحل عبدالله الشيخ في إصدار معرضه التاسع الذي أقامته له وزارة الثقافة والإعلام ما يكفي عن أيّ تعبير، حيث قال -رحمه الله-: (في الستينات شغفت بالكثير من مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية وثابرت على الاستماع لعدد منهم سواء كانوا الرومانسيين والتأثيريين أو التعبيريين، في مقدمتهم المؤلف الرائع شوستا كوفج، حيث أنجز في أغلب أعماله صرخة تأنيب وأحزان، بسبب حصار شرس مع خطوات الوحوش وبطش الجيوش النازية. والحقيقة لم أكن أهتم لتأويلات وتحليل مؤرخي هذا الفن أو ألتفت إليها من قبل، بل اعتدت التلذذ بروعة التأليف والتكوينات المجردة فقط. ولكن بعد كوارث ألمت بالإنسان العربي، مفاهيم جديدة توضحت لي في أعمال ذلك المؤلف، ولم تعد حالة الاستمتاع كما كانت من قبل... ثمة تحولات ودراسة جادة برزت لمغزى العمل الفن وفحواه. تلك التحولات أبعدتني عن عوالم الرومانسية بطوباويتها بعد صارما، لاصطدم أنا واللون والموضوع في اللوحة بمواجهة العالم الراهن والحقيقي. عالم القتل وهدير المقاتلات وغبار اليورانيوم. حل الانعدام بمفهومه التام، ساد الرعب وانتشرت خوذ الجنود في الفضاء الأسود، وأكلت العربات المجنزرة الطرق المعبدة وها نحن.. في بدايات قرن جديد، ومع الترقب والانتظار المقيت، تبقى أنغام شوستا كوفج تعلو بعنف لتهوي بعنف مؤثرة وبوضوح على مكونات اللوحة لتظهر فوهات المدافع بداخلها بين آونة وأخرى.. ويبقى الحنين إلى الرومانسية وأحلامها يتراكم دون جدوى.. حيث لا طعم ولا شوق ولا عشق للطيور العابرة.
سيرة ومسيرة الفنان الشيخ
من مواليد الزبير، سعودي الجنسية، متخرج من معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1959م، أكمل دراسته الجامعية في إنكلترا وتخرج عام 1965، دورة تدريبية لمدة سنتان بمانشستر/ إنكلترا، الخبرة العملية تدريس مادة التربية الفنية. عمل بدرجة خبير التصميم وزارة الصناعة. مدير إنتاج مطابع قطاع خاص بالمنطقة الشرقية. رئيس قسم التصميم بطابع الهيئة الملكية بالجبيل الصناعية. تفرغ للفن عام 1999م.
حاصل على 20 جائزة وأقام 60 معرضاً جماعياً و20 معرضاً شخصياً، عضو في العديد من لجان التحكيم مثل المملكة في الخارج في العديد من المناسبات. مقتنياته في - مؤسسة المنصورية للثقافة والإبداع بجدة - الحرس الوطني بالرياض - متحف عبدالرؤوف خليل بجدة - مطار الملك خالد الدولي بالرياض - مطار الملك فهد بالدمام - متحف الشارقة للفنون التشكيلية - أرامكو السعودية بالظهران - وزارة الداخلية بالرياض - الأمانة العامة لدول مجلس التعاون بالرياض - شركة الزيت العربية/ الخفجي - مقتنيات الأفراد في السعودية، الإمارات، لبنان، أستراليا، أمريكا، ودول أخرى.