د. حمزة السالم
تقترن الصلاة بالزكاة غالباً في آيات القرآن الكريم، بلا تفصيل لأحكامهما. فجاءت السنّة فبينت لنا الواجب من الصلاة، فحصرته في خمس صلوات، وبينت لنا كيفية أدائها وأقوالها وعدد ركعاتها. وجاءت السنة ففعلت في الزكاة مثل ما فعلت في الصلاة، فبينت لنا مقادير وأنصبة ثمانية أصناف من الأموال هي: الذهب والفضة، والقمح والشعير والتمر، والإبل والبقر والغنم والماعز. فلماذا لا يُقاس على الصلوات الخمس، بينما يقاس على الأموال الزكوية؟.. فهنا يقال إن القياس لا يكون في العبادات، وإنما يكون في المعاملات. ونقول إن الزكاة هي عبادة فيها جانب تعاملي. وهنا يظهر أهمية التفريق بين العبادات والمعاملات، بوضع ضوابط مطردة منضبطة.
وكذلك فالقياس المنضبط لا يكون إلا بعلة، والعلة تكون في الأشياء لا في الأفعال. لذا، فالقياس في الزكاة يكون في الأموال لا في تأدية الزكاة.
والأحكام الفقهية إما أوامر وإما نواهٍ. ويفرق بينها اجتماع ثلاثة شواهد أو عدمها:
فالشاهد الأول: أن الأمر غالباً ما يكون بفعل عبادة، وضد الأمر هو النهي، فإن جاء به الحكم يكون للامتناع عن معاملة.
أما الشاهد الثاني: فالعبادات تكون أوامر بفعل أشياء محددة بزمن مخصوص، بينما المعاملات تكون نهيا في زمان مطلق.
أما الشاهد الثالث: فإن المعاملات تتعلق بمتعلقات خارجة عن ذات الإنسان. أما العبادات فتتعلق بذات الإنسان نفسه، فلا يٌحتاج لمتعلق حسي مادي دنيوي لازم لأداء العبادة، ما لم يكن متعلقاً تعبدياً محضاً. كتعلق عرفة والمشعر الحرام بالحج، فهي متعلقات تعبدية محضة، وكتعلق الأنعام بالهدي والأضحية. بينما نرى أن متعلقات أحكام المعاملات تتعلق بأشياء خارجة عن ذات الإنسان المأمور، كالخمر والزنا.
فمثلاً: حكم الصلاة، حكم تعبدي محض، ومتعلق بالإنسان، لا بملبسه ولا بمكانه. فتجب عليه الصلاة ما استطاع على حاله، مهما كان حال مكانه ولباسه ووقته.
وحكم الحج كذلك، تعبدي محض. لكنه بخلاف الصلاة، فإن له متعلقات خارجة عن المسلم، فلا يصح حج ولا يقع بلا صلاة عند المشعر الحرام، وطواف بالبيت العتيق. وبالرغم أن للحج متعلقات خارجة عن ذات الإنسان، إلا أنه يظل عبادة محضة. والسبب أن متعلقاته هي متعلقات تعبدية محضة.
وكذلك الهدي والضحايا، فتخصيص الأنعام بها دون غيرها، يجعلها متعلقات تعبدية.
وهذا بخلاف متعلقات الزكاة، مثلاً كالمال، فهي متعلق معاملاتي يجري فيه القياس والاجتهاد.. فالزكاة حكم يغلب عليه التعبد إلا أن فيها جانباً معاملاتياً. فنستفيد مثلاً:
تأصيل حرمة إخراج الصلاة عن وقتها كصلاة الفجر عمداً، لكون المسلم في طائرة، أو لكونه في سوق الصين، بدعوى القياس على الجمع في المطر؛ فهذا قياس باطل، من جهتين: الجهة الأولى: شرعية؛ لأن حكم الصلاة يقع على المسلم لا على متعلقات الصلاة.
والجهة الثانية: عقلية؛ لأن القياس يقع على الأشياء لا على الأفعال، والصلاة في هذا القياس الباطل، من الأفعال.
ونستفيد كذلك مثلاً: المقدرة على تأصيل مسألة زكاة الصغير والمجنون، وذلك من معرفة أن حكم الزكاة في جانبها التعاملي متعلق بالمال، لا بصاحب المال، بشاهد تعلق النصاب بالمال لا مالكه. فما عاد يجدر بنا ذكر خلاف في زكاة مال المجنون والصغير.
فالنتيجة المحصلة إذا من تفريق العبادات عن المعاملات هي: أن زوال أمر من المأمورات نتيجة اجتهاد قياس، هو دليل على بطلان القياس والاجتهاد، كإسقاط الزكاة عن العبد والصغير والمجنون. أما زوال أمر من الممنوعات نتيجة اجتهاد وقياس فلا يدل على بطلان الاجتهاد، كانعدام ربا البيوع تقريباً في عصرنا الحاضر.