د. محمد بن إبراهيم الملحم
أبرز قصيدة تتبادر إلى ذهن كل واحد منا عند التعليق على التعليم هي قصيدة أحمد شوقي (1868 - 1932) «قُمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيلا، كادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا». وقد عارضها كثيرون، أبرزهم معاصر له، هو الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان (1905-1941) بقصيدته التي أعرض شاهدًا منها، هذه ستة الأبيات:
شوقي يَقولُ وَمَا دَرى بِمُصيبَتي
«قُمْ للمُعلِّم وَفِّهِ التَبجيلا»
أقعُدْ، فَدَيتُكَ، هَلْ يَصيرُ مُبَجَّلاً
مَنْ كانَ للنَشءِ الصغارِ خَليلا
وَيَكادُ «يَفلِقُني» الأميرُ بِقَولِهِ
«كادَ المعلمُ أنْ يَكونَ رَسولا»
لَو جَرَّبَ التَعليمَ «شوقي» ساعةً
لقضى الحياةَ شقاوةً وخُمولا
يَكفي المعلم غُمَّةً وكآبةً
مَرْأى الدَّفاتِر بُكرةً وأصيلا
«مئة على مئة» إذا هي صُحِحَتْ
وَجَدَ العمى نَحوَ العُيونِ سَبيلا
ويمضي في نظرته السوداوية الساخرة لمهنة التعليم حتى يقول في آخرها:
لا تعجبوا إنْ صِحْتُ يَوماً صَيحَةً
ووَقَعتُ ما بينَ البُنوكِ قَتيلا
يا مَن يُريدُ الانتَحارَ وَجدتُهُ
إنَّ المُعلمَ لا يَعيشُ طويلا
وشاهدي في هذه الوقفة أن إبراهيم طوقان وغيره من المعارضين ابتسروا من قصيدة شوقي ثناءه على المعلم، واستلهموا منها أن شوقي يطريه وينتدب إلى أن مهنته أجمل مهنة، وأحسنها، سواء في قيمتها المعنوية (كاد المعلم أن يكون رسولا)، أو في قيمتها الاجتماعية (أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي، يبني وينشئُ أنفساً وعقولا). وربما صورت لنا معارضاتهم الساخرة أن شوقي ينتدب إلى هذه المهنة باعتبارها سهلة يسيرة؛ فراحوا يصوِّرون المعاناة التي تعج بها هذه المهنة، والآلام النفسية، والإجهاد الممرض وراءها، بينما قصيدته لا تقول ذلك بالضرورة، بل هو يتأسى لحال المعلم، وما آل إليه التعليم في عصره. بيد أن الأبيات المنتشرة، سواء في مقالات الأدب أو حتى في الكتب المدرسية، هي جزء مقتطف من القصيدة، ترك جوانب أخرى لاعتبارات تاريخية، ولها شواهد موقفية؛ فشوقي عاصر وزير التعليم الإنجليزي دانلوب (1861 - 1937) الذي وضع في مصر نظامًا ومناهج تعليمية، تخدم أهداف الاحتلال البريطاني، وتقزم العروبة والقيم الإسلامية، بل منع تدريس كثير من جوانب تاريخ العرب والمسلمين، وصوّرت مناهجه الأمة المصرية على أنها للزراعة والخدمة فقط، ولا تستطيع التقدم والتصنيع، وما إلى ذلك من القضايا؛ إذ شُوهت المناهج، وأُعيدت كتابتها بطريقة استعمارية وقحة جدًّا. كما تم استقدام المعلمين الإنجليز، وافتُتحت مدارس تعليم أجنبي، ومدارس كنسية كثيرة، وأُعطيت الرواتب العالية جدًّا للمعلمين الأجانب، والرواتب الزهيدة للمعلمين المصريين؛ فكانت القصيدة دعوة من شوقي للعناية بالمعلم؛ لأنه الأمل الوحيد المتبقي حينها؛ فهو مَن سيحفظ للمتعلمين قيم التعلم، والتراث العربي والإسلامي لكل الجيل آنذاك، فها هو يقول:
واللهِ لولا ألسنٌ وقرائحٌ
دارتْ على فطنِ الشبابِ شمولا
وتعهّدتْ من أربعين نفوسهم
تغزو القنوط وتغرسُ التأميلا
عرفتْ مواضعَ جدبهم فتتابعتْ
كالعيـنِ فَيْضَاً والغمامِ مسيلا
تُسدي الجميلَ إلى البلادِ وتستحي
من أن تُكافأَ بالثناءِ جميلا
ما كانَ دنلوبٌ ولا تعليمُه
عند الشدائدِ يُغنيانِ فتيلا
وقبلها تحدث عن أن بلاده تشكو التخلف لهذا السبب؛ فهي محرومة من اللحاق بركب الحضارة قسرًا لا اختيارًا:
واليوم أصبحنا بحالِ طفولةٍ
في العِلْمِ تلتمسانه تطفيلا
من مشرقِ الأرضِ الشموسُ تظاهرتْ
ما بالُ مغربها عليه أُدِيلا
يا أرضُ مذ فقدَ المعلّمُ نفسَه
بين الشموسِ وبين شرقك حِيلا
ذهبَ الذينَ حموا حقيقةَ عِلمهم
واستعذبوا فيها العذاب وبيلا
في عالَمٍ صحبَ الحياةَ مُقيّداً
بالفردِ، مخزوماً به، مغلولا
صرعتْهُ دنيا المستبدّ كما هَوَتْ
من ضربةِ الشمس الرؤوس ذهولا
وفي البيت الأخير أشار إلى الاستبداد وما فعله بهم، ثم استشهد بقصة موت سقراط أول شهيد للعلم والتعليم، وهو الفيلسوف اليوناني الذي اتُّهم بإفساد الشباب بطرحه الأسئلة كوسيلة للتعلم مما يعرض معتقداتهم الدينية للخطر، فعمدوا إلى محاكمته، وإصدار حكم الإعدام عليه بشرب السم، فشربه؛ ومات شهيدًا لفكرته ومنهجه في التعليم، مع أنه عُرض عليه الهرب من محبيه، لكنه رفض، واستجاب للنظام:
سقراط أعطى الكأس وهي منيّةٌ
شفتي مُحِبٍّ يشتهي التقبيلا
عرضوا الحياةَ عليه وهي غباوة
فأبى وآثَرَ أن يَمُوتَ نبيلا
إنَّ الشجاعةَ في القلوبِ كثيرةٌ
ووجدتُ شجعانَ العقولِ قليلا
إنَّ الذي خلقَ الحقيقةَ علقماً
لم يُخلِ من أهلِ الحقيقةِ جيلا
من الضروري إذن أن ندرك سياقات كل قصيدة؛ لنتمكن من الاستشهاد بها في محلها. فمثلاً من يسمع قصيدة طوقان المتشائمة من مهنة التدريس يظن أنه معلِّم أفنى شبابه في هذه المهنة، بينما الرجل لم يمارس التدريس أكثر من أربع سنين، اثنتان منها في الجامعة، وقبلها سنتان في مدرسة النجاح بالقدس، وترك بعدها المهنة إلى العمل الإذاعي؛ لأنه لا يحسنها، ولا يهواها؛ فلا عجب أن تأتي قصيدته على هذا النحو. ولعلي أعود إلى هذه المسألة التشاؤمية لاحقًا بإذن الله.