د. محمد بن صقر
إن الوعي الموجه هو أسوأ أنوع الجهل وأخطرها ضررًا سواء على المستوى الفرد أم على مستوى المجتمع ومؤسساته التي ينتمي إليها، والسبب في ذلك أن الرسائل الموجهة للجماهير والتي يكون ظاهرها الحقيقة وباطنها الأكاذيب والتجهيل توهم تلك الجماهير وتمارس عليهم التغيب الكامل للواقع ولمعطيات الأحداث وتجعلهم يؤمنون بها بشكل مطلق، فهي تدعو إلى الجهل وهندسة العقل ليقبله. فقد تحدث الكاتب الأمريكي البارع فرانك كلارك حول الجهل وأصحابه حين قال «إن السبب في انتشار الجهل أن من يملكونه متحمسون جدًا لنشره». بسب اعتقادهم وإيمانهم أنهم على صواب وأن صوتهم لابد أن يُسمع أيضًا. ذكر المفكر العراقي علي الوردي حول أن من يتلقون الرسائل في عصره بقوله «يا ويل القرّاء من أولئك الكتاب الذين لا يقرؤون لإدراكه بأن النشطاء في نشر أفكارهم يعتبرون من مصدري الجهل ومهندسي الوعي الموجه. فالجماهير كما ذكر صاحب كتاب سيكولوجية الجماهير غوستاف لوبون يمكن وضعهم في حالة معينة يفقدون فيها شخصيتهم الواعية والمتزنة وقد لا يصدق الحقيقة، ويكون هذا الأمر عادة عندما تبنى رسائل يستهدف فيها الجماهير ويخاطب فيها غرائزه العاطفية بعيدًا عن بنية الرسائل العقلانية، فتعتقد الجماهير أنها واعية وأنها تمارس الحكمة في تصرفاته وعندئذ تقترف أكبر الأعمال مخالفة لطبعها الحقيقية وعاداته ووعيها. وعلى الأسلوب نفسه نجد أن التأمل الفاحص قد برهن على أن الفرد عندما يكون وسط جمهور هائج سرعان ما يسقط في حالة خاصة تشبه كثيرًا حالة الانجذاب الشديد الذي يشعر به المنوم مغناطيسياً تجاه منومه ويشعر في الوقت نفسه أن تصرفه فيه نوع من الحكمة، وذلك لمسايرة هذا الجمهور الذي يمارس الجهل والذي تم توجيه سلوكه من خلال مضامين إعلامية مصنوعة بسناريو تعطيل التفكير وبوسائل مختلفة، فهو عندما يكون فردًا معزولاً ربما يكون إنساناً متزنًا وأكثر تعقلاً، ولكنه ما إن ينضم إلى الجمهور حتى يصبح مقودًا بغريزته همجيًا بتصرفاته، يترك نفسه فيها عرضة للتأثر بالکلمات والصور. فالفرد في هذه المرحلة يصبح كحبة الرمل في وسط الرمال تذروه الرياح في كل اتجاه.
فالجمهور يبقى دائماً أدنى مرتبة من الإنسان المفرد فيما يخص الناحية العقلية والفكرية. ولكن من وجهة نظر العواطف والأعمال التي تثيرها هذه العواطف يكون العقل لديه أشبه بسيارة أجرة يمكن توجيهها إلى أي مكان وبسرعة غير مدروسة ويمكن لهذا الجمهور أن يسير نحو الأسوأ. وكل شيء يعتمد على الطريقة التي يتم تحريضه أو تحريكه بها. فمن السهل اقتيادهم إلى الشارع كما حصل في العراق وليبيا ومصر عندما مارس الإعلام الموجه دوره في صنع الوعي الموجه المضلل وجعلهم يقتلون باسم الحرية أو النضال أو محاربة الفساد، أو تلك الأمور التي ترتبط بشكل مباشر بالجوانب الغرائزية والتي من شأنها أن تحرك السلوك. إن بناء منهجية التفكير الناقد لدى الجماهير وبناء الوعي المعرفي القائم على الأدلة قد تجعل الوعي يتحول من وعي موجه يمارس الجهل إلى وعي يمارس المعرفة.