د. محمد عبدالله الخازم
يعيش اللاجئون والمهاجرون والغرباء ذوي الطبقات العاملة الدنيا ضمن جماعات وكانتوهات، يتقاربون في مشتركات الاغتراب ويتباعدون في مرجعياتهم وأصولياتهم الأولى. في حالات كثيرة المستضيف صاحب الثروة يتعامل معهم وفق رؤية استعلائية، منفعية، دون الولوج في التفاصيل الاجتماعية لحياتهم والحرص على احتياجاتهم. الروائية ليلى عبدالله عبر «دفاتر فارهو» تتجاوز مجرد تفاصيل الهروب والحروب إلى معاش تلك الجاليات في دول الاغتراب الغنية والتي يخيل للبعض أنها الجنة. الصدمات الحضارية والفروقات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية تحتم انعزال الغرباء. لكل غريب قصة يحكيها في المدرسة التي خصص وقتها المسائي للجاليات، بعضهم معروف الجنسية والأصل وبعضهم يطلق عليهم البدون لأنهم بلا جنسية محددة، وهم في أعمار متفاوتة وخلفيات لغوية وثقافية مختلفة، حتى أن الأفغاني ينادي فارح الصومالي - البطل الراوي هنا- ب (فارهو) ومنه يأتي اسم الرواية.
ليست كل جنسية يشكلون وحدة متعاضدة متجانسة مع بعضها البعض، بل إن الجاليات تجلب مخاوفها ومخالفاتها وصعوباتها معها، فتتكون داخلها قوى أو أفراد مبتزين لبني وطنهم. خال فارهو يتحكم في أرزاقهم ويسخرهم لمصالحه الشخصية مهدداً إياهم بفضح الأسرار كل حين. قسوة العيش والحاجة تحيل البعض إلى منحرف أو تصنع منه مجرما مع سبق الإصرار أو تصنع منه مخالفا لمبادئ الدين والقانون والعرف الاجتماعي للبلاد التي يعيش فيها. يعيش المغترب عمراً طويلاً وهو يأمل بتقبله في المجتمع الجديد أو تحسن بلده الأم ليعود إليه، فلا يحدث سوى محاولات لسلخ هويته وتوارث الهموم والفقر والألم والمرض. «اسمع يافارح؛ لأهل هذه البلاد قواعد غريبة في تصنيف الغرباء.. بدءاً بالاسم الكافر فهو يعني أنك شخص خطير وقذر.. ثم سرعان ما يخضع بقيتك للتبديل.. بمجرد أن تطأ أرضاً غير بلادك، تتبدل كلياً، شئت أم أبيت، فهذا قدرك، قدر كل متشرد في بلاد ثرية». «أنا مجرد حشرة، مجرد كائن بشري يزحزح وفق متطلبات شخص يدعونه كفيلاً. رغم الهويات كلها ظلوا ينادونني «يالسوداني» رغم أني لست سودانياً. تتعلق هويتنا بجلودنا، كلعنة لم يغفر لنا التاريخ صبغة لوننا الأسود، الهويات كلها تسقط أمام لوننا، مهما انتحلنا هويات أخرى...». مع استثناءات؛ «هذا المكان المقدس يبسط شروطه الصارمة غير أنه سرعان ما يرتخي، يكفي أن يكون للمرء وجه كث الشعر، كي تزيد فرص تثبيته في هذه الأرض».
وعلى مشارف ختام الرواية يواصل بوحه «لم تكن حياتي أغراض فائضة عن الحاجة، أغراض منسية، بل كان كل غرض له أهميته، قيمته وعمله، لم يكن ثمة ماهو فائض، بل كنا دائماً بحاجة لأغراض أساسية، لا يمكن للمرء العيش دونها بمفهوم العالم المتحضر، لكننا اعتدنا الحياة من دونها، لقد استغنينا عنها بمرارة، لأنها لم تكن لنا، لم تصنع لأمثالنا، لا نستحقها، لأننا لم نكن نملك حقها. لقد خلقنا في هذا العالم مفلسين لا نملك شيئاً....»
هذا المقال ليس نقد الأدبي وإنما هي نقطة ضوء على عمل يستحق التقدير، هو الأول لكاتبته ليلى عبدالله ويحكي عوالم وبيئة، رغم أنها لم تعشها لكنها عبرت عنها بدقة فائقة. شكراً ليلى على «دفاتر فارهو» وننتظر مزيداً من الإبداع....