نوف بنت عبدالله الحسين
منذ زمن ليس ببعيد، حين كانت ابنتي الكبرى في المرحلة الابتدائية، كنّا نرتاد الحدائق العامة بكثرة، وخصوصاً في الأجواء اللطيفة والباردة، لاحظنا أنا وبناتي بأن الحدائق رغم ما تملكها من جمال، إلا أنها تعاني من عدم المحافظة على نظافتها من قبل مرتاديها، فكّرنا أن نبدأ حملة صغيرة على الحدائق، بحيث نأخذ معنا أكياس النفايات وقفازات، وبدأنا نتوجّه للأطفال الذين يلعبون، ونطلب منهم المشاركة في تنظيف الحديقة.
في الحقيقة كنت متخوّفة جداً من ردّة الفعل، وكنت أخشى أن أواجه رفضاً أو هجوماً من أحد الأطفال أو أهاليهم، لكن اكتشفت أن الأمر أبسط كثيراً في حقيقته من كل الأوهام التي جالت بي دون رأفة.
الناس فيهم خير كثير، يحتاجون إلى تحفيزهم لا تنفيرهم، ويحتاجون إلى إحسان الظن بهم، وقد مللنا من الانتقاد وقد حان وقت العمل على حل المشكلة وتجريب كافة الحلول المتاحة.
تجاوب الأطفال معنا في مبادرتنا هذه، والأجمل أن الأهالي كانوا فرحين ومتعاونين جداً، وبعضهم كان يشارك معنا، بل إن بعض كبار السن كانوا يشجعون الأطفال بتوزيع الحلوى لهم وهم يقومون بالمهمة.
ربما عزيزي القارئ تظن أنني أبالغ في هذا التصوّر، ولا ألومك أبداً فلم أكن بذاتي أتوقع ذلك، لكن الحقيقة أن الأمر كان فوق المتوقع وأروع بكثير مما ذكرت، وبالتالي نحن نحتاج أن نحسن الظن أولاً بالله ثم بالآخرين، وأن نبادر بأنفسنا قبل أن نقوم بذلك مع الآخرين.
تنمية المسؤولية الاجتماعية تبدأ في الأماكن العامة، في المقاهي والمطاعم والملاعب والحدائق والمستشفيات، واللامبالاة نشأت دون قصد وربما تكاسل لكنها تراكمت وللأسف توارثت، فلم نعد نميط الأذى عن الطريق، ونتجاهل بقايا الأكل المرمية والمخلفات، لأننا نعلم بأن هناك من سيزيله، لكننا خسرنا الصدقة في إماطة الأذى.
من المواقف الظريفة التي تبرز الإحساس العالي بالمسؤولية، والدي وأحد أقربائي كانا في طريق سفر بري، وكعادة والدي يحضر عصير (راوخ)، بعد أن انتهى قريبي من شرب العصير، فتح نافذة السيارة بكل بساطة ورمى علبة العصير الزجاجية! التفت عليه والدي وعاتبه عتاباً شديداً وقاسياً وأعطاه محاضرة تأنيب شديدة لا ينساه، ثم طلب منه أن يلتقط كل الزجاج المتهشّم، كانت نيّة قريبي أن لا يوسّخ سيارة والدي، لكن والدي وسّع نطاق اتجاهاته قائلاً: (يا أخي أنا ما أطالبك تميط الأذى، لكني أرفض أنك تتسبب في الأّذى، فقد تتأذى سيارة بسببك، وقد يتأذى حيوان بسببك وقد تتسبب بكارثة دون أن تعلم!)؛ لم ينسَ قريبي هذا الدرس ودائماً يشاركنا هذه القصة، وبدوري نقلتها لبناتي والآن أنقلها لكم بكل حب كرسالة وعلم صالح ينتفع به.
عودة إلى مبادرتنا الصغيرة التي كنا نستمتع بتنفيذها في حدائق الرياض، سألت ابنتي الكبيرة عن اقتراح مسمى لهذه المبادرة، فقالت: نسميها (ارفع.. لترتفع)، فسألتها لماذا هذا الاسم؟، فقالت: (حين ترفع من الأرض ترتفع في السماء بإماطة الأذى).. فصممنا الشعار وأردنا أن يكون مشروعاً مستمراً، لكن بناتي كبرنَ ولم نعد نذهب كثيراً للحدائق العامة كما كنا نفعل.. أظن أننا نحتاج أن نحفّز الخير الذي بداخلنا ليعم الخير للجميع، ونرتفع بأخلاقنا عند ربً العالمين.