د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
قضيت كل حياتي الوظيفية في الجامعة باستثناء بعض الاستشارات البسيطة التي كان الدافع لها الابتعاد عن أجواء غير مستقرة عصفت بمكان عملي مرات متكررة. وفي نظري فإن الجامعة ليست إلا مؤسسة صغيرة تعكس ما يحدث في المجتمع ككل. وعايشت أنماط إدارات مختلفة وبرامج متتابعة تتم الدعاية لها بقوة، ثم لا تلبث أن تختفي دونما مساءلة للمسئولين الذين اقترحوها ودافعوا عنها، أو التساؤل عن أسباب فشلها. فجرى استبدال مشروع بآخر بشكل تلقائي وخسارة كل ما صرف على ما قبله. وكلما طرح مشروع من قبيل: توطين التقنية، أو مجتمع المعرفة أو غيرها تم اختيار من يقومون به وينشرون الحماسة له بعناية فائقة، وما أن اختفى المشروع حتى اختفى هؤلاء.
لذا لا غرابة أن لنا أكثر من أربعة عقود نحاول إصلاح النظام الجامعي دونما جدوى. وقد دفعت حملات الإصلاح الخديجة المتتابعة ببعض القيمين على الشأن الحكومي، والراغبين في الإصلاح حد اليأس. فهل فعلاً نظامنا الجامعي غير قابل للإصلاح؟ إذا ما كان كذلك فما العمل؟ استيراد جامعات وافدة لسد الفراغ؟ أو إنشاء جامعات تدار من كوادر خارجية كما هو الحال مع كاوست؟
أؤمن بألا نهضة لأي بلد إلا بسواعد أبنائها، وأؤمن أيضًا أن من يطور أي تكنولوجيا أو يحقق أي إنجاز علمي لن يمنحه لآخرين ولن يتقاسمه معهم في ظل التنافس الرأسمالي المحموم الذي هو في أساسه تنافس علمي. وما اخترعت الدول الرأسمالية أمور مثل براءة الاختراع، وحقوق الاستخدام الحصرية، وحروب التجسس العلمي إلا للحفاظ على الإنجازات العلمية. ومن لا ينتج التكنولوجيا الخاصة به، ومن لا يتلمس طريق تنميةٍ معتمدًا على جهود وإمكانات ذاتية سيجد صعوبة ليس في التنمية فقط بل وربما في البقاء، فما يحدث اليوم عالميًا هو صراع حقيقي للبقاء. لذا إذا كان في نظامنا التعليمي مظاهر قصور فلا بد من معالجتها، وإذا ما كان من ضرورة لاستبداله برمته فليكن. وكل هذا ممكن ومتاح إذا كانت هناك إرادة قوية وإصرار ومتابعة دقيقين.
ويستحيل أن يبدأ الإصلاح من الصفر فهناك نظام قائم ومتطور، وعندما نقول متطور لا نقصد أنه تطور للأحسن بالضرورة، لكنه نظام مر بمراحل متتابعة من محاولات التطوير التي لا نقول فشلت تمامًا لكنها لم تحقق المرجو منها. فقد كان هناك تحولات في النظم التعليمية والإدارية التي تم استعجال نتائجها ثم التخلي عنها كلية دونما دراسة وتحليل لأسباب فشلها، ودونما محاسبة لمن اقترحوها وأضاعوا موارد كبيرة وثمينة في تحقيقها. إذا لا نلبث أن نغير نمط التطوير كلية ونطمس آثاره ليموت وتموت معه المسئولية عن فشله ثم نبدأ برنامجاً آخر بديلاً. في التطوير، وفي التنمية عمومًا، للأخطاء قيمة علمية لا تقدر بثمن فيما لو ما تم تحليلها للاستفادة منها مستقبلاً، ليس فقط في عدم تكرارها وإنما لبناء عملية تطوير قائمة على دراستها وتحليل معطياتها.
تم دعم جامعة الملك سعود مثلاً في فترة من الفترات بمبالغ ضخمة بهدف تطويرها، وشهدت الجامعة في تلك الحقبة مزيجاً من محاولات التطوير أحيطت بنشاطات إعلامية أكبر من عملية التطوير ذاتها حتى تصور الناس أن اللوحات الإعلانية والصور الضخمة المكلفة التي غطت كل جدران الجامعة هي التطوير. وبدأ الصرف بلا حساب أو محاسبة. ورغم ذلك استغل بعض الجادين في الجامعة هذا الحراك لمحاولة تحقيق نقلة في مجالاتهم يستفيد منها الوطن. وتم تأمين الكثير من المعامل العلمية وتحققت بعض الإنجازات، إلا أن التطوير الدعائي الذي كان بقيادة شخصية معروفة تعمل تحت قيادة المدير كان لها الغلبة. وأجهضت عملية التطوير، وتغيرت الإدارة، وتم إيقاف بعض البرامج الطموحة الجادة أيضًا وبقيت المعامل الحديثة بلا مواد، والأجهزة بلا كوادر. وأتت إدارة لها توجه آخر مغاير. والأخطر في رأي الكاتب تجلى في دفن الأخطاء دون استفادة منها، لأن من ارتكبوها أرادوا دفنها. ما زالت هناك أخطاء كبيرة ومن ينتقدها يجد نفسه خارج نطاق العملية برمتها. فللأخطاء في المسيرة العلمية قيمة لا تقدر بثمن.