سهوب بغدادي
فيما تعد مكتبة مدبولي إحدى أعرق مكتبات القاهرة، حيث يقصدها الآلاف من القراء نظرًا لتوفر الكتب النادرة في مجالات عديدة منها الأدب والفن والسياسة والتاريخ. حقاً، إنها مكتبة فريدة من نوعها للغاية على الرغم من مظهرها التراثي القديم فلا زالت من أفضل الوجهات الثقافية في المحروسة التي تحولت من بسطة صغيرة على الطرقات إلى دار نشر غنية عن التعريف. من هنا أذكر لكم السبب وراء بكائي في مكتبة مدبولي. في عام 1997 كنت أبلغ من العمر 9 سنوات، كنت أملأ فراغ يومي -الخالي من التكنولوجيا- بالرسم وقراءة الكتب والقصص إلى شروق الشمس فلقد كان يمر الوقت دون أن أشعر وكأنني أعيش داخل السطور تارة وأهيم داخل امتزاج الألوان تارة أخرى. كانت لدي موسوعة كتب عليها مجلد رقم 1, لطالما رغبت بإنهائها إلا أن خوفي من إنهائها قبل أن أجد المجلد التالي جعلني أتقهقر مرارًا بين السطور لعلمي أن الموسوعة من مكتبة مدبولي التي حكت لي والدتي عنها. فأحببت أن أراها في الحقيقة عوض عن الخيال فبت أتخيل زواياها وتلك الأرفف المتخمة بالكتب وأتصور نفسي حاملة كتاب تنبعث منه رائحة الكتب القديمة مع لمسة من الغبار. بالطبع لم أكن أعلم كيف تبدو المكتبة على أرض الواقع ولكنني كنت متيقنة بأنها ستعجبني عندما أراها. في صيف عام 1998 سافرنا إلى القاهرة وكنت أتشوَّق إلى الذهاب إلى المسرح والسينما ومدن الألعاب وبالطبع كان للتسوّق من وسط البلد حصة من هذه الرحلة، عندما كنت أتململ أنا وإخوتي من تأخر أمي وجدتي - رحمة الله عليها - في أحد المحال وجدت نفسي صدفة أمام مكتبة مدبولي، فاختلطت مشاعري في تلك اللحظة، عندما دخلت المكتبة وقفت لمدة دقيقة أو أكثر -لا أعلم- فرحت أقارن بين خيالاتي القديمة وما أراه أمامي فوجدت أن الواقع فاق خيالي الطفولي ثم بكيت. بكيت دون سابق إنذار أو تمهيد فإذا بوالدي يجذبني بقوة من يدي مسرعًا إلى الشارع ظنًا منه أنني خفت أو استنكرت المكان. مرت السنين وها أنا في عامي 31 أقف ذات الوقفة وأنسى الوقت في كل مرة أدخل فيها مكتبة فيغمرني إحساس القلق والسعادة في آن واحد. القلق لأنني متيقنة بأنني لن أستطيع أن أقرأ كل كتاب في هذه المكتبة وأشعر بالسعادة لمجرد وجودي في عالمي السري. لفتني مقطع تحت وسم موسم الرياض لطفل يبكي في حفل فرقة الكيبوب بي تي اس، حيث استنكر المعلقون أسفل المقطع بكاء الطفل وارجعوا السبب وراء بكاؤه إهمال وضعف تربية الأه. بغض النظر عن السياق الذي بكى الطفل فيه, لقد رأيت نفسي فيه. هي ذات اللحظة وذات الرهبة وذات الخيالات والانتظار. لا أرى في بكائه أية خلل، بل إنه دليل على رقة الإحساس وعمق الخيال. إن بكاء الطفل مشابه تماماً لبكاء الأم والأب عندما يرون طفلهما للمرة الأولى نظراً لالتقاء الخيال العميق بالواقع عقب مدة من الزمن مع الإعجاب بالفكرة. وتخرج حالة البكاء من كونها قلة دين أو سوء تربية إلى كونه ظاهرة سيكولوجية إنسانية راجعة إلى (الإحساس الغامر) فلا أستبعد أن نرى غداً شخصاً يبكي عند دخوله متحفاً فنياً أو عرضاً أوبيرالياً, فلتبحروا في الخيال وبحوره كما تشاؤون فلم يعد الخيال بعيداً أو صعب التحقق في عصر السرعة والفترة الذهبية التي تشهدها المملكة العربية السعودية (#لو_تقدر_تخيل).