الرياض مدينةٌ ليست ككل المدن في حاضرها المبهر وماضيها الذي لا يغيب، في طابعها وطبيعتها، في تاريخها الممتد عبر الزمان، وجغرافيتها المتعمقة في المكان، في شمسها وأجوائها، في تراثها وثقافتها، في دينها ودنياها، في أهلها والمقيمين فيها، تشتاق إليها إذا ابتعدت عنها، وقد تملَّها إذا طال مقامك فيها، تتسع اتساعاً لا يضاهييها فيه مدينة عربية أخرى، تحتفي بزائرها احتفاؤها بأهلها.
الرياض مدينة الدين والدنيا معاً، مدينة يأخذ الحاضر فيها بيد الماضي ليستشرفا سوياً إشراقة المستقبل.. وكما يبهرك حاضرها، يناديك ماضيها، يشدَّك إلى مساجدها، وقصورها، ومتاحفها، وحواريها، وشوارعها، وأسواقها، حيث عبق التاريخ، ورائحة المكان وأنفاس الزمان وأهله. تنطق ملامحُها بتطورها وحداثتها وبنموها المتسارع، الذي لا ينسيها أو يثنيها عن الاحتفاظ بأصالتها وتراثها ومعالمها التاريخية.
وللمساجد في تاريخ الرياض وماضيها، مكانة لا يدانيها مكانة، ولها جذورها الممتدة إلى مسجد «قُرّان» أقدم مسجد بني في الإسلام في بلاد اليمامة، موطن الرياض الأقدم، وقُرّان، قرية في اليمامة لبني سحيم بن مرّة بن الدؤل بن حنيفة كما يذكر الحموي، وهي ما تعرف الآن بالقرينة (الجاسر، 1422هـ)، شمال غرب الرياض على بعد 80كم. ومسجد خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، الذي قام ببنائه في السنة الثانية عشرة للهجرة، بعد فتحه لليمامة. والمؤكد أنه بعد دخول اليمامة في الإسلام بنيت مساجد كثيرة، فقد عاش فيها كثير من الصحابة والتابعين ودرسوا فيها، وأقاموا حلقات العلم والتعليم كعلوم الحديث والفقه والأصول وغيرها.
ولا شك أن مدينة الرياض، كغيرها من المدن الإسلامية، قد انتشرت المساجد في كل حي من أحيائها على مر تاريخها الطويل، وإن لم يتوفر من المصادر القديمة عدد هذه المساجد وأسمائها، كما أن أعداداً كثيرة من هذه المساجد قد تعرض للاختفاء والإندثار بفعل العوامل الطبيعية كالأمطار، أو السيول، عبر فترات زمنية طويلة. وربما ظهرت إحصاءات لعدد المساجد في مدينة الرياض إلاّ أنها جاءت متأخرة، ذكرها الرحالة العرب وغيرهم ممن مروا بمدينة الرياض، ومن هؤلاء الرحالة المشهور «بالجريف»، الذي ذكر: أن في الرياض أكثر من ثلاثين مسجداً، وذلك عند زيارته للرياض عام 1862م، وما ذكره البستاني في وصف الرياض سنة 1877م فقال في دائرة المعارف: «ومن أبنيتها جامعاً في سائر أنحاء المدينة». ومن مساجد الرياض القديمة والشهيرة:
- الجامع الكبير، وكان المسجد الجامع لمدينة الرياض ويقع في وسط المدينة تقريباً، ويعرف حاليا بـ«جامع الإمام تركي بن عبدالله»، شمال قصر الحكم.
- مسجد شارع الثميري، ويقع جنوب حصن المصمك مباشرة، وشمال شارع الثميري في حلة الظهيرة، بُني في زمن حكم الإمام تركي بن عبدالله -رحمه الله- وقد هُدم وبُني أكثر من مرة، كان آخرها بعد أن تم تطوير منطقة قصر الحكم عام 1408هـ (1987م).
- مسجد الحلة، ويقع وسط الحلة القديمة، ولا يعرف تاريخ بنائه تحديداً، وقد زيد في بناء المسجد، وأُحدثت له خلوة في عهد الإمام فيصل بن تركي، لكنه تعرّض للدمار، وعندما استعاد الملك عبد العزيز -رحمه الله- الرياض عام 1319هـ (1902م)، أمر بإعادة بنائه وزيادته، وتمت إعادة بنائه مع توسعته وتحسينه في الثمانينات من القرن الرابع عشر الهجري.
- مسجد الشيخ عبدالله (دخنة الكبير)، ويقع في الجهة الجنوبية الغربية من حلة دخنة، ويُطل على شارع مسجد الشيخ عبدالله، وأطلق عليه «مسجد دخنة الكبير» تميّزاً له عن مسجد دخنة الصغير. وقد أُنشئ عام 1187هـ (1773م) في عهد الدولة السعودية الأولى، وأمر ببنائه الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب وشاركه الأهالي والأعيان، وأمَّ الصلاة فيه، كما أقام فيه حلقات دراسية للتعليم وإليه ينسب.
مسجد دخنة الصغير (الشيخ صالح)، ويقع في الجهة الشمالية الشرقية من حلة دخنة، يطل على شارع الشيخ عبدالله، وعُرف بالصغير تمييزاً له عن مسجد دخنة الكبير، ولا يُعرف تاريخ بناء هذا المسجد تحديداً، وكان يقع بجوار بئر دخنة المشهورة، التي كان تسقي نخيل دخنة جميعها. وأعيد بناء المسجد بناءً مسلَّحاً في بداية الثمانينات الهجرية من القرن الرابع عشر الهجري.
- مسجد الظهيرة، من أقدم مساجد الرياض، ولا يُعرف تاريخ بنائه على وجه الدقة، يقع شمال شرق جامع الرياض الكبير وسط حلة الظهيرة. وقد نقل عن مكانه الأصلي قليلاً، ليصبح على جانب شارع الإمام تركي بن عبدالله، مقابل حصن المصمك. وقد عُرف باسم «مسجد الشويعر» نسبة لأشهر إمام صلى فيه، وهو الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن محمد الشويعر المتوفي سنة 1392هـ. وشهد المسجد عدة توسعات وإضافات، منها: توسعة سنة 1375هـ، وتوسعة سنة 1389هـ، حيث بُني بالحجر، ولا يزال المسجد إلى اليوم عامراً بالصلاة والذكر وفي حالة جيدة من البناء.
مسجد المعيقلية، وهو مسجد قديم لا يعرف تاريخ بنائه، يقع داخل أسواق المعيقلية الجديدة، خلف الجامع الكبير من الجهة الغربية الشمالية قليلاً. وقد أزيل هذا المسجد ضمن مشروع تطوير منطقة قصر الحكم عام 1408هـ، وأُدخل ضمن أسواق المعيقلية التجارية.. وحل محله الآن مسجد العطايف الذي كان يقع بالقرب منه في الجهة الغربية الجنوبية من أسواق المعيقلية الحالية، وهو مسجد ذو بناء معماري حديث وجميل.
مسجد السدرة (مسجد خالد)، وسُمِّي بذلك نسبة إلى وجود شجرة سدر كانت تقع بقربه في الجهة الشرقية منه. وهو مسجد قديم يقع جنوب سور قصر الحكم مباشرة، وقد بناه الأمير خالد بن سعود (الكبير) بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود، أو أشرف على بنائه، عندما كان حاكماً للرياض خلال الفترة من 1254- 1257هـ (1838- 1841م). ويحتمل أنه قد بُني على أنقاض مسجد قديم، وقد أُزيل في منتصف الستينات الهجرية من القرن الرابع عشر الهجري، وفي الثمانينات الهجرية أُزيل هذا المسجد مرة أخرى وبُني بناءً مسلحاً على موقعه السابق.
وكانت المساجد القديمة في الرياض مبنية من اللبن والطين والأخشاب، كعادة غالبية المباني السكنية والدينية قديماً، وكانت جدرانها لا تتجاوز في ارتفاعها أربعة أمتار، أما أسقفها فكانت من خشب الأثل وسعف النخيل، وأحياناً جذوع النخل بدلاً من الأخشاب، وهو النمط الذي ساد في العمارة السكنية القديمة في منطقة نجد، ويُسمى هذا الجزء المسقوف بـ»المصابيح»، بينما الجانب المكشوف يسمى بـ«السرحة». وكانوا يبنون تحت «السرحة» مبنى أو مكاناً يسمى «الخلوة». وهذا الجزء من المسجد يصلي فيه المصلون في فصل الشتاء حماية لهم من البرد والأمطار. أما سطح المسجد فكان يصلى فيه في فصل الصيف صلاتي المغرب والعشاء. وكانت أرضية المسجد تُفرش بالحجر الصغير (البحص) في البداية، ثم فُرشت بعد ذلك بالـ«الحصر» أو «المدات» المصنوعة من نباتات الغاب وسعف النخيل، والتي يصل عرضها إلى نحو المتر أو يزيد قليلاً، بينما يصل طولها إلى عدة أمتار. وفي مقدمة المسجد المغطاة كان يتم بناء جدار صغير يصل ارتفاعه إلى 30 أو 40 سم، بينما يتوافق طوله مع حجم المسجد واتساعه؛ وذلك لكي يتكئ عليه المصلون، وخاصة كبار السن، ويسندون ظهورهم إليه، وكان يطلق على هذا الجزء من المسجد اسم «الروضة».
وعادة ما كان من مستلزمات بناء المسجد أن يلحق به بئر يُستخرج منه الماء لأغراض الوضوء والشرب، وعادة ما كانت توجد بجواره، وخاصة في الجوامع والمساجد الكبيرة، غرفة تخصص للوضوء والاغتسال. وكان الأهالي يُشرفون على المساجد ويهتمون بها وذلك قبل أن تتولى الدولة الإشراف عليها من خلال مديرية الأوقاف ثم وزارة الحج والأوقاف التي تم استحداثها فيما بعد.
وقد روعي عند إقامة المساجد ألاّ تُشكِّل أبوابها ضرراً على المنازل المجاورة، فلا يكشف الداخلون والخارجون من المسجد تلك المنازل، وذلك في المساجد التي بنيت بعد وجود هذه المنازل، أما المنازل التي بنيت بعد بناء المسجد فقد كان أصحابها هم الذين يقومون بجعل أبواب منازلهم بعيدة عن أبواب المسجد. كما رُوعي في تصميم المساجد قديماً رفع النوافذ فوق مستوى نظر الشخص العادي، وعدم وضع النوافذ جهة القبلة حتى لا يحدث شيء من الكشف للمارة والمساكن المجاورة، وحتى لا ينشغل المصلون بما قد تقع عليه أعينهم من خلال النوافذ المواجهة لهم.
** **
- د. محمد أبو الفتوح غنيم