د.عبد الرحمن الحبيب
في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة دعا ترامب إلى التراجع عن مؤسسات دولية أنشأتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، والعودة إلى القومية وتشكيل سياسات اقتصادية حمائية داخل البلد.. مؤكداً أن «المستقبل لا ينتمي للعولمة.. المستقبل ملك للوطنيين»، ومردداً ملاحظاته أمام الأمم المتحدة قبل عام: «نحن نرفض أيديولوجية العولمة، ونعتنق مبدأ الوطنية».
سياسة ترامب الحمائية ورفضه لقواعد التجارة العالمية، والانسحاب من الاتفاقات والمعاهدات الدولية، تمت تحت شعار حملته «أمريكا أولاً». هذا الشعار هو بالأساس مستعار من الانعزاليين الأمريكيين في ثلاثينيات القرن الماضي، فلأمريكا تاريخ طويل مع الانعزالية قبل الحرب العالمية الثانية، وكثيراً ما يعتمد قادة الحركة الانعزالية على هذا التاريخ لتعزيز موقفهم، مستندين على أن أمريكا وحدها قارة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ هي أفضل حالاً بإمكاناتها الهائلة ولا حاجة لها بالتورط في شؤون الدول الأخرى. فهل تدخل الولايات المتحدة في طور سياسة انعزالية جديدة؟
بداية، يقصد بالانعزالية هي سياسة انعزال أحد الدول عن شؤون الدول الأخرى عبر رفض الدخول في تحالفات أو التزامات أو اتفاقات اقتصادية دولية، وتكريس جهود الدولة بأكملها للداخل لتجنب التورط والمسؤوليات تجاه الدول الأخرى. وتشير العزلة، هنا، إلى إحجام أمريكا القديم عن المشاركة في التحالفات والحروب الأوروبية.
من المهم المرور بتاريخ الانعزالية في أمريكا.. ففي خطاب الوداع، دعا الرئيس جورج واشنطن (أول رئيس أمريكي) إلى عدم التدخل بالحروب والسياسة الأوروبية. وطوال القرن التاسع عشر سعت أمريكا لتقليص علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع الخارج لأقصى حد، ورفضت مقترحات التعاون المشترك، مستندة على مبدأ الرئيس مونرو (1823م) بالعمل الأحادي، مما مكَّنها خلال القرن التاسع عشر، من التمدد ما بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ والتمتع بنوع من «الأمن الحر» والبقاء بعيداً عن صراعات العالم القديم.
خلال الحرب العالمية الأولى، قدَّم الرئيس ويلسون حجة بأن تدخل الولايات المتحدة في الصراع هو مصلحة أمريكية للحفاظ على نظام عالمي سلمي، إلا أن التجربة الأمريكية في تلك الحرب وما جرته من دمار عالمي ساعدت على تعزيز حجج الانعزاليين بأن المصالح الأمريكية الهامشية بهذا الصراع لم تبرر ضخامة الإصابات والخسائر الأمريكية. كما ساهم الكساد الاقتصادي العالمي خلال ثلاثينيات القرن العشرين، في دفع الرأي العام الأمريكي والسياسة تجاه الانعزالية، رغم أنها استمرت في التوسع الاقتصادي وحماية مصالحها بأمريكا اللاتينية.
خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، اختارت الحكومة الأمريكية عدم التدخل، كما رفض الكونغرس عضوية أمريكا في عصبة الأمم خشية تورطها بالنزاعات الأوروبية. وقد أثبتت العصبة عدم فعاليتها في مواجهة النزاعات العسكرية المتزايدة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى عدم المشاركة الأمريكية. وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية في أوروبا عام 1939 استمرت أمريكا على الحياد مع تقديم مساعدات محدودة للحلفاء. لكن الهجوم الياباني المفاجئ على البحرية الأمريكية في بيرل هاربور في ديسمبر 1941 أقنع غالبية الأمريكيين بضرورة التدخل إلى جانب الحلفاء. وبعد نهاية هذه الحرب شكلت أمريكا (أو شاركت بتأسيس) مؤسسات أممية سياسية واقتصادية وانخرطت بعمق في النظام الدولي.
إذن، ترامب لم يأت من فراغ، فقد كانت السياسة الخارجية للعزلة الأمريكية ما قبل الحرب العالمية الثانية مذهبًا دبلوماسيًا واقتصاديًا يهدف إلى جعل أمريكا تعتمد على نفسها اقتصاديًا وتحافظ على السلام مع الدول الأخرى. وإذا كان بعض الباحثين الأمريكان يعتبرون أن للولايات المتحدة تاريخًا انعزاليًا، فإن آخرين يعارضون ذلك ويعتبرونها سياسة عدم التدخل وتتماشى مع الرأي العام الأمريكي.
بيد أن الرأي العام الأمريكي متأرجح، إذ يوافق 40 % من السكان على السياسة الخارجية للرئيس ترامب، بينما يعتقد 51 % أن «أمريكا أقوى عندما نلعب دورًا رائدًا في العالم لحماية مصالحنا الوطنية ودفع الأهداف المشتركة مع حلفاء آخرين»؛ حسب استطلاع للرأي أجراه مؤخراً المركز الأمريكي للتقدم (CAP). ويوافق 64 % من الأميركيين على أنه يتعيَّن على أمريكا العمل مع الشركاء والحلفاء للتعامل مع الهجمات الإلكترونية وأسلحة الدمار الشامل والتهديدات الأخرى، كما يوافقون على أن: «التزام بلدنا بالقيام بدور قيادي في تشكيل الأمن والشؤون الاقتصادية بجميع أنحاء العالم بعد الحرب العالمية الثانية أدى إلى حياة أكثر أمناً وازدهاراً للأميركيين.»
ويخلص البروفيسور هال براندز (جامعة جونز هوبكنز) إلى أن تلك النتائج تشير إلى عدم موت الإستراتيجية الأمريكية العامة، لكنه يظهر أن التبريرات التقليدية لسياسة خارجية طموحة أصبحت أقل إقناعًا لأولئك الذين بالكاد يتذكرون الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، وأن هناك غضبًا وخيبة أمل ناجمة عن الحروب الطويلة لما بعد 11 سبتمبر، ومن ثم أصبح دعم الأممية الأمريكية أكثر ندرة حين يرى كثير من الناخبين ثرواتهم الاقتصادية راكدة أو متدهورة.
والخلاصة أن هناك غالبية أمريكية توافق على شكاوى ترامب، لكنهم لا يدعون إلى الانعزالية، وإن كانوا غير مقتنعين بالمبررات التقليدية لجهود أمريكا في الانخراط في شؤون العالم. وستظهر الانتخابات القادمة أي السياستين سيرجحها الناخبون، وسيواجه منافسو ترامب مهمة صعبة في إقناعهم بلغة يفهمونها لدعم حجة الأممية الأمريكية إزاء القومية الأمريكية.. أو العولمة إزاء الانعزالية.