عبد الرحمن بن محمد السدحان
* الحديث عن سيرة الذات أمر عسير فـي أيّ زمان أو مكان، ليس فيما تحويه سيرة المرء منا من مواقف وأشخاص وعِبَر، فبعضها يلتهمه النسيان، أو يتَمرّدُ على النسيان. لكن العُسْرُ كل العُسْر فيما يمكن استضافته في الذاكرة أو إطلاق سراحه عبر بوابة النشر!
* * *
* وحين أروي أحيانًا هوامشَ من سيرتي الشخصية فـي مراحلها البِكْر، فإنما أفعلُ ذلك، رغم عُسْر الانتقاء لما يقال، لأُدلَّلَ على بضْعةِ أمور من بينها أنّ معادلةَ العنَاء في فجْر العُمر ليسَتْ شَرّ ًا كلَّها، كما قد يظنُّ البعضُ، بل قد يكون ذلك مدْخَلاً هامًا لإيقَاظِ الحس والإحساس وصَقْلهما وإكسَابِهما شفافيةً تمنحُ صاحبهَا القدرةَ على تلمُّسِ مواطِئِ قدميْه في تعامله مع نفسه بدْءًا.. ثم في علاقَاَته وتعَاملِه مع الآخرين!
* * *
* كنتُ اجتازُ ربيعي السابع تقريبًا، حين عدتُ ذات أصيل إلى بيت جدي (لأمي) طيب الله ثراهما، مكدودَ البدَن والفؤادِ معًا من عناء الدراسة ومشوار الرحيل يوميًا بدءًا من مطلع الشمس إلى المدرسة فـي أبها سيرًا على الأقدام، من مقر إقامتي في قرية مشيّع، ثم العودة إليها قبل رحيل الأصيل، كنت وقتئذٍ أقاسم جدَّي لأمي (رحمهما الله) عشَّه الريفي المتواضع بقريته الحالمة المطلّة على ضفَاف وادي أبها، وكان ذلك اليوم عصيبًا وحزينًا ذقْتُ خلاله مرارة (عصا) مدرسٍ لم يرَحمْ تضاريسَ جسدي النحيل!
* * *
* ألقيت بجسدي المعَـنَّى على الأرض بين يدي جدّي.. وأقسمت وسط زخات من الدمع ألاّ أعودَ إلى المدرسة بعد ذلك اليوم.. مفضَّلاً رفقةَ الأغنام في سفوح الجبال المجاورة وحارسها (شدّاد) الكلب القويّ! وقد اقترحت على الجد الحنون أن (أتفرّغ) لرعي غنمه أو المشاركة فـي سُقْيا الزرع بدلاً من عناء المشوار الطويل إلى المدرسة ومنها والتعزير النفسي والبدني داخل جدرانها، وأنْ أتابعَ الدرسَ بين يديْه في المسَاء، وقد بارك جدَّي الخطوةَ فـي الحال، متأثَّرًا بشَفاعة دمعي، ووهن جسدي!
* * *
* عشتُ فترةً لا أذكر مدتَها أرتادُ سفوحَ الجبال القريبة، مسْتمتعًا برفقة الغنم، منذ مولد الشمس حتى توشكَ أن تغيب، مرةً أُشْغل نفسي بقراءة ما تيسر لي من القرآن الكريم، وأُخْرى ألهوُ ببناء حصونٍ صغيرةٍ من قطع الحجر المتناثرة هنا وهناك، وأزيّن جدرانهَا بقطع من حصى (المرو) الأبيض، مثلما يفعل الكبار! فإذا أرهقني اللهو، كتبتُ رسائلَ ساذجةً إلى نفسي، حتى يدركني المساء، فأقْفلُ عائدًا مع الغنم إلى المنزل، لأعيدَ الكرّة في اليوم التالي، كان طعامي (خلال دوام الرعي) في القَفْر الواسع لا يتجاوزُ حبّاتٍ من (تمر التنك) أو التمر (المتصّحر) جفافًا، وأحيانًا أسعدُ برغيفٍ من البُر أو الشعير، تفاجئني به سيدتي الوالدة مع شيءٍ من الشاي، وكانت إطلالتُها وسط وحْشَة الجبال، فيما هي تردّد اسمي بصوتٍ ملائكيّ حنون، تشْبهُ إشراقةَ الفجْر بعد ليلٍ عاصف طويل! وتسْرِي في أوْصَالي لحظتئذٍ انتفاضةُ فرحٍ أسطوري لا يُنسَى!
* * *
* اكتسبتُ (خبرةً) فـي كتابة الرسائل إلى درجة أن جارةً للأسرة فـي القرية طلبتْ ذات يوم من سيدتي الوالدة أن أكتبَ لها رسالةً إلى زوجها الجندي (المغترب)، ورحَّبتُ بالفكرة فورًا، وذهبتُ إلى منزل الجارة (مدجَّجًا) بالقلم والورق، وقبل أن أشرعَ في كتابة ديباجة الرسالة، بدْءًا بـ((على الدوام أدام الباري علينا وعليكم نعمة الإسلام..))، استَسْلمت المرأةُ للبكاء تذكُّرًا لزوجها العسكري الغائب، واختنقت الكلمات بين شفتيها، فلم تَسْتطعْ أن تمليَ علي ما في الخاطر، وأخذتُ أجول ببَصَري الحائر بين وجهها المضرّج بالدمع وبين الورق أمامي، ثم بادرتُها بنبرة طفولية تتقاسمها البراءةُ والجدُّ معًا، فقلت لها ما معناه: (اختاري يا خالة بين البكاء الآن والكتابة بعد ذلك أو العكس)، فتحَاملتْ المرأةُ على نفسها وأمْلت الرسالةَ، وهي تقاومُ ابتسامةَ حنَانٍ تخترقُ سحَائب دمعها! وقبل أن أنصرف منحتني مكافأةً مالية مقدارها أربعة قروش كانت أولَ (أجر) في حياتي!