د. فهد بن علي العليان
هذا عنوان لمحاضرة قدّمها أستاذ المناهج في كلية التربية بجامعة الملك سعود الصديق القدير أ. د. راشد العبدالكريم ضمن فعاليات يوم المعلم الذي أقامته كلية التربية يوم الخميس 4 صفر 1441 .
قبل موعد اللقاء، اطلع صاحبكم على الإعلان الخاص بتلك الفعاليات فلفت نظره هذا العنوان، وجلس يتأمل في تلك الأيام والسنين التي قضاها يحمل حقيبته ودفتر تحضيره ويلتقي بطلابه، ثم كتب إلى مجموعة (الواتس) الذي يوجد فيها زملاء تربويون، وفيهم صاحب المحاضرة:
«حقاً، إنها متعة، لا يعادلها شيء، ما أجمل وما أحسن وما ألطف الكتاب والقاعة والتدريس».
بقي يتأمل عنوان اللقاء، لتعود به الذاكرة
إلى البدايات في دخول عالم التدريس فكتب في المجموعة:
«إن أتاح الله فرصة لأخيكم فيستحدث عن شغفه بالتدريس منذ اليوم الأول له في ثانوية حي الشفا، عندما دخلها لا يلوي على شيء ليجد طلاباً يقاربونه بالعمر. خشي في يومه الأول من قاذوفات طباشيرية تأتيه من ورائه ظهريا. يتماسك ويمسك بتلابيب الفصل، ثم يفاجأه أكبر الطلاب سناً وجسما بسؤال: كم عمرك يا أستاذ؟!
اهتز الفصل ضحكات، وما اهتزت رجلاه؛ إذ كانت سنواته في المسرح وإلقاء الشعر العربي خير معين لثباته حتى كتب مقاله ( خارج القاعة)، غادر القاعة، وبقيت في وجدانه..
لم يندم يوماً واحداً، ولا ساعة من نهار، ولا دقيقة من ضحى أن قضى ثلاثة عقود ينتظم فيها طالباً ومعلماً. كلما دخل قاعة، يعلن على الملأ أن أفضل حياته التعليمية ثلاث سنوات قضاها معلماً في الثانوية، بل إن قلبه طار فرحاً عندما نزلت طائرته في واشنطن عام 1995، ثم يهاتفه زملاء تلك المرحلة ليحكوا له أحاديثهم وأحاديث المدير عن صاحبهم الذي غادر، ولم يغدر بعهودهم إلى هذه اللحظة».
كتب صاحبكم هذه الخاطرة على عجل، وفي نفسه كثير من الذكريات الجميلة عن تلك الأيام، لكنه لم يرد أن يكثر على أصحابه بماض لم يشهدوه، وبأحداث انقضت ومضت حتى أصبح كثيرون ممن يحملون (الدال) قبل أسمائهم يتنكرون لبداياتهم في التعليم العام، بل يريد أغلبهم أن يكون الحديث عن حاضرهم داخل قاعات الجامعة متناسين تلك الأيام الخوالي التي أسهمت في صنع شخصيتهم التعليمية والتربوية.
كان هذا الشعور يسيطر على صاحبكم، فلتتوقف عن حروف الماضي التي لا طائل من ورائها، ثم يأتيه تعقيب لطيف من صاحب المحاضرة د. راشد العبدالكريم «جميل، بداية مشوّقة، وأنا دائماً أدعو التربويين لكتابة تجاربهم».
كتب د. راشد العبارة السابقة وترك أخاكم يعيش معها، وحروفه تدفع ليكتب هذه المقالة عن بدايات دخول عالم التدريس حين امتطى سيارته في مطلع 1411 حاملاً قرار توجيهه للبدء معلماً في ثانوية حي الشفا، فكانت الرحلة من إدارة التعليم إلى مقر الثانوية طويلة وطويلة جداً، كان فيها ينتظر وصوله للمدرسة ليحلِّق في سماء الوظيفة تحيط به كثير من الآمال والأحلام. وصل المدرسة التي لا يعرف فيها أحداً أبداً، دخلها خائفاً يترقّب، وقابل مدير المدرسة الرجل الفاضل التي بقيت علاقته به ممتدة إلى هذا اليوم، توجه بعد ذلك إلى غرفة المعلمين ليدخل عليهم مسلِّماً بخجل وهدوء، يرحب به الجميع ثم يجلس على إحدى الطاولات ويبدأ الزملاء بالتعرّف على أخيهم وضيفهم الجديد الذي تخرَّج قبل أشهر من الجامعة ولولا أنه يلبس (العقال) لظنوه أحد طلاب الثانوية. انتهى التعارف السريع وبدأ (البعض) بتوجيه النصائح التربوية التي كانت تنهال بشكل (وصاية) على المعلم الجديد الصغير، فيقول أكبرهم «إياك إياك أن تكون سهلاً مع الطلاب، فتذهب مهابتك». يستمع إلى نصائحهم وتوجيهاتهم، وكثير مما يقولونه لا يناسب شخصيته الاجتماعية التي تعشق الناس وتحب مخالطتهم، ثم يفكر ويجول في خاطره أن هؤلاء أصحاب خبرة وممارسة، قضى يومه الأول بين النصائح والترقب والاطلاع على معالم المكان والوجوه الجديدة، ليبدأ من اليوم الثاني باستلام جدوله الذي كان ممتلأ بكل ما هو غير مناسب، وهنا لا بد من الرضا، إذ سبق أهل الدثور بالأجور؛ حيث أخذ المعلمون الأوائل أفضل الجداول فصولاً وتوقيتاً، ليبقى صاحبكم مع القسم الأدبي ودروس آخر اليوم، بعدما عرف وتمرّس أدرك أنه ضحية لترتيبات الجداول المسبقة.
بدأ صاحبكم دروسه بجد وعزيمة يعهدها في نفسه إلى يومه هذا، إذ لا يعرف التهاون في أمر أسند إليه، يدخل فصلا ويتعرف على طلابه ليغادره إلى فصل آخر يستمتع كذلك بالحديث مع طلابه عن قضايا اجتماعية ورياضية تناسب أعمارهم وهي في الوقت نفسه ضمن اهتمامات معلمهم، ومع مرور الأيام وتوالي الحصص بدأ يشعر أن الطلاب أصبحوا قريبين منه وليس كما حذّره الزملاء الآخرون (الناصحون) له في وضح النهار!
وهو يكتب هذه الحروف يطلع على الواتس ليرى عنوان إحدى المجموعات (ثانوية الشفا) وهم مجموعة من أعز أصدقائه هذه الأيام يفتخر ويفاخر أنهم التقوا في تلك الثانوية، كانوا طلاباً متميزين جداً، ويسعد بهم في لقاءات مستمرة وهم مسؤولون في قطاعات حكومية وخاصة.
وإن نسي فلا ينسى أنه كان في لقاء قبل أيام قليلة جداً مع أحد طلاب تلك الفترة وأحد أطباء هذا اليوم، والقائمة طويلة.
قبل أن يتوقف صاحبكم عن سرد هذه الحروف، يتعجب كثيراً من أولئك (الأكاديميين) الذي انطلقوا من التعليم العام وهم يحاولون طمس تلك الفترة من تاريخهم التعليمي!
تتزاحم الذكريات وتتعدد المواقف، وهنا شكر للعزيز د. راشد العبدالكريم الذي أضاء لأخيه كتابة هذه الحروف، وهو يعلم جيداً أن أخاه لما يزل مستمتعاً بالتدريس وإن ابتعد عنه، ويأمل أن يواصل كتابة حروفه عن ذكرياته في عالمه الجميل.
(التدريس متعة)..