د. إبراهيم بن محمد الشتوي
كنت قد أشرت في المقالة السالفة إلى قول ابن الرومي عن ابن المعتز: إنه يصف ماعون أهله وأنا أصف ماعون أهلي، وهو يشير هنا إلى أن ابن المعتز الخليفة ابن الخليفة لباسه الديباج والحرير وآنيته الذهب والفضة يستمد موضوعاته وصوره الفنية من بيئته بينما هو المولى الفقير يستمد أيضاً موضوعاته من بيئته.
وهذا الفرق في الموضوعات، والبلاغات الذي يجعل كل قسم منها متصلاً بطبقة معينة، وخاصاً بها، ومعبراً عنها يعود في أساسه إلى الفرق بين المذهب الكلاسيكي وما جاء بعده من مذاهب أدبية.
فمن المعلوم أن «الكلاسيكية» ترد إلى كلمة «كلاس» Class ومن معانيها الطبقة، وفيها أن الموضوعات تنقسم إلى نوع عالٍ يقع في دائرة الطبقة الأولى في المجتمع، ونوع يمثل موضوعاً لاهتمام المهمشين، والبسطاء من الناس، ففي الأدب اليوناني انقسم المسرح إلى قسمين: التراجيديا وهو الذي يتكلم عن قضايا التاريخ والأحداث العظام، وهذا هو الأدب الرفيع، والكوميديا وهي التي تعنى بالإضحاك والإمتاع وهو الأدب الوضيع، ويمكن على هذا أن نصنف موضوعات الشعر العربي، فنجعل الفخر والمديح والرثاء في الصنف الأول من الشعر في حين يأتي الهجاء والوصف والغزل في الصنف الثاني، وفي العصر الحديث اعتبرت المسرحية هي الأدب العالي في حين اعتبرت الرواية الواقعية أدب الطبقة الثانية في المجتمع ولذلك ربط بين ظهور الرواية في تاريخ الأدب الحديث بظهور الطبقة الوسطى أو البرجوازية باعتبارها تعبيراً عنها وتأريخاً لها.
وبناءً على هذه الرؤية نستطيع أن نفهم ظهور بعض الموضوعات، وإن شئت فقل «التيمات» في بعض المذاهب الأدبية دون بعض، فتيمة المرأة البغي مثلاً ليست من الموضوعات الكلاسيكية بوصفها نموذجاً إنسانياً ضعيفاً، تقوم بعمل تحرمه الشرائع لكنها في المذهب الرومانسي لقيت عناية من قبل الشعراء، والكتاب الأوروبيين أو العرب الذين رأوها نقية طاهرة في الأصل، ولكنها ضحية من ضحايا المجتمع الفاسد، فالأولى بها الرحمة والشفقة والعطف عوضاً عن العقاب والشتم والاحتقار (يمكن أن تراجع قصة الضحية في عبرات المنفلوطي)، في حين أن المذهب الواقعي رأى في البغي صورة من صور صراع الطبقات، واستغلال الطبقة الغنية للفقيرة، ورأت الماركسية أنها تمثل نموذجاً من نماذج علاقات الإنتاج والاستهلاك، فهي تقدم خدمة في مقابل المال الذي تجنيه وهي تدر أموالاً طائلة على المدينة.
وعلى هذا النموذج يمكن أن نقيس كثيراً من النماذج الفنية في الفنون، فلوحة المرأة الفلاحة التي في «الملس» تحمل جرة الماء فوق رأسها لم تكن لتلقى أدنى عناية في العصر الذي كان فيه الرسامون منصرفين إلى رسم صور «العائلة المقدسة» -كما يصفونها- وتجلياتها المختلفة، وغيرها من الثيمات الكنسية أو الإمبراطورية في زمن مايكل أنجلو ومن تلاه، لكنها لقيت عناية فائقة بعد تحول الفن إلى قضايا الناس العاديين البسطاء ليعبر عنهم، ويكتشف جماليات حياتهم، بالانطلاق من نظريات في الفن جديدة تبتعد عن مفهوم المحاكاة لعالم المثل إلى أن الفن في الطبيعة وما على الفنان الأصيل إلا القيام باكتشافه وإبرازه إلى نظريات أخرى كنظريات الحداثة وما بعد الحداثة.
وإذ خرجت الفنون من العباءة الطبقية بناء على التغيرات الكبيرة في البنية الاجتماعية والنظريات الجمالية والأدبية، وأصبحت -في الغالب- تعبر عن ذات الكاتب أو الفنان أياً كانت الطبقة التي ينتمي إليها، بوصفها ذاتاً إنسانية في المقام الأول، تلتقي بالحس والرغبة في الجمال، وتبحث عن معايير عالمية -وإن شئت- إنسانية واحدة تتجاوز فيها اللغات والأشكال إلى جوهر العمل الفني وهو الكشف عن إحساس الفنان وبعثه إلى المتلقي. الأمر الذي يجعل الفنانين والشعراء والكتاب على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية طبقة واحدة مستقلة تضاهي الطبقات الاجتماعية الأخرى ذات نظام، ومقاييس يحتل فيها الأدباء منازلهم بقدر إبداعهم وما يقدمون من أعمال، وبقدر ما تنال من قيمة وتقدير في الأوساط الأدبية، وتحدث من أثر فيها، فهم في حالهم ذاك كقول الشاعر:
إن يختلف نسب يؤلف بيننا
أدب أقمناه مقام الوالد
وبقدر موقعهم في هذه الطبقة يكون موقعهم في المجتمع، وبين أبناء الطبقات الأخرى.
غير أن هذا التداخل بين فئات الأدباء والفنانين واستقلالهم عمن سواهم في طبقتهم لا يعني أن هذا المنتج الفني يخلو من كل بعد طبقي، وأنه لا يمكن على المستوى التفسيري الكشف عن الإحالات الطبقية التي يحيل إليها، والدلالات المضمرة التي يتحملها، فيكشف عن ثقافة إحدى الطبقات دون الأخرى، أو يعبر عنها، أو موقفها من الطبقات كذلك، كما يكشف الأدب بوجه عام عن بيئته التي ينتمي إليها وحالات الأديب الاجتماعية والنفسية بوصف هذه الإحالات والدلالات المضمرة جزءاً من تكوين النص ودلالاته جزئية كانت أم كلية.