سهام القحطاني
تُؤسس فلسفة المعرفة على السؤال في درجاته المختلفة بدءًا بالسؤال الوجودي وصولاً إلى السؤال الجدلي، فالسؤال دافع معرفي في ذاته؛ لأنه مُنتج لمضمون دلالي وصانع لخطاب فكري.
خُلق الإنسان محاطًا بالكون وطبيعته المختلفة والمستدامة، وهذه الدائرة الشكلانية في كليتها كانت بالنسبة له كتلة من الغموض والمجهول، والتي نسبها في بداياته الفهمية إلى الحتمية وهذه البدايات تأسست فيها قدرة الخيال عند الإنسان والتي كانت بمنزلة تعويض أولي عن الفهم أو قل كان بديلاً للفهم.
لكن بعد مرور البدايات والتعود على وقائع الاستدامة اكتشف مبادئ الارتباطات الشرطية والارتباطات التجاورية، وهو اكتشاف بلا شك حاصل سؤال مسوغ التكرار، وهذا الاكتشاف ساعده على تصميم جدولة من الثنائيات بنى من خلالها ثقافته المعيشية.
وقيمة تلك الجدولة لا تنحصر في تحقق الثقافة المعيشية بل كان لها دور في تطور إدراكه التفكيري من مستوى فهم الارتباطات سواء في صيغتها الشرطية أو التجاورية إلى مستوى الوعي، هذا المستوى الذي أنتج قانون «العلل» والذي أرهص لإظهار السؤال المعرفي في درجاته المختلفة.
منح الله سبحانه وتعالى الإنسان القدرة على الإدراك كأهم آليات العقل للقيام فيما بعد بوظائف الاستخلاف واستمرار الترقي المعرفي والحضاري، والإدراك بدوره يملك قدرته الخاصة على الترقي من خلال عملياته، وهذا الترقي هو الذي ينقله إلى درجة الوعي، وهذه الدرجة هي التي تصنع السؤال في أصله المعرفي.
هل هذا يعني أن مرحلة الإدراك غير مختصة بإنتاج السؤال؟
تنبني الكفاية الفهمية عند الإنسان وفق تراكمية خاصة تبدأ بالإدراك سواء الحسي أو التفكيري.
وما بين الحسي والتفكيري يتوسط الخيال كمحرك بحث معرفي لخصائص الدائرة الشكلانية التي تحيط بالإنسان ويعجز عن إيجاد تفسير لها وفق سقف أوليات إدراكه، تلك الأوليات التي شكلت مصطلح «قوى الطبيعة» والتي حولت تلك القوى إلى آلهة تُعبد، وهو ما يُفسر لنا طريقة الطقوس والقرابين التي كانت وسائط بين الإنسان والقوى الخفية.
والخيال لا يرتبط فقط بالوثنية الطقوسية، بل هو ممثل بديل للإجابة على سؤال وجودي عن الفاعلية المطلقة التي تتحكم في قوى الوجود وصناعته، وبذلك يُصبح الخيال معادلاً للسؤال في مرحلة الإدراك الأولية؛ لأنه يُنتج إجابة وإن تمثلت طقوسيًا.
ولذا يُعد الخيال وسيلة من وسائل التفكير التي قد ترتقي كأداة معرفة أو مصدر لإنتاج سؤال، لكن هذا الترقي مضبوط بشرط الكيفية والقصد والغاية.
ووفق حاصل الإدراك أي جدولة الثنائيات، يأتي الوعي لينقل حاصل الإدراك وإحالاته إلى مرحلة البحث المنطقي، وهذه المرحلة هي التي تمثل الوجود الحقيقي للسؤال في كيفيته المعرفية.
يعتبر السؤال في المطلق المؤسس الأولي للكفايات الفهمية باعتباره وسيلة تعبيرية للإدراك والتفكير وآلة استقراء للتحقق وعموم الدلالة.
والسؤال في هذه المرحلة، مرحلة التكوين الأولي للتعبير الإدراكي والتفكيري هو الذي يعين المرء على الوصول إلى أدوات تمّكنه من الاندماج مع البيئة وتسهل توطينه.
وفي هذه المرحلة تتشكل أطر الوقائع وأوليات التعاريف والدلالات والرموز والأحكام، أي المدونة المعرفية المؤسسة للكفايات الفهمية والتي تتسم بخصائص التفكير الاقتضائي المرتبط بوظائف التأثير والتأثر والتفكير العللي، بحيث يصبح الأثر والسبب قانونًا معرفيًا في ذاته.
وتتعدد أغراض الأصل في السؤال وفق المقام الزمني الممثل له ووفق القصدية الساعي إلى تحقيقها، بدءًا من التفسير وصولاً إلى الحقيقة.
كان السؤال في بداياته التفكيرية يهدف إلى البحث عن تفسير يوضح الارتباط الموضوعي للعلاقات التلازمية بين الأشياء، حتى يستطيع الاستفادة من نتائج ذلك التفسير في تطوير ثقافته المعيشية، وهو ما يعني أن السؤال في تكوينه المبدئي لم يكن الغرض منه معرفيًا بالمعنى الوظيفي بل كان الغرض منه صناعة واقع مواز ومتكافئ مع أصل الواقع الحقيقي؛ أي الوصول إلى تصور مادي يعين الإنسان في إنتاج أدوات لمواكبة خصائص الطبيعة التي تحيط به لإنتاج الواقع الموازي لضرورة التناسب والتعايش.
وعندما استقر الإطار المعيشي للإنسان متوافقًا مع بيئته انتقل وعيه من كيفية الاستفادة من المتلازمات الطبيعية إلى إمكانية إعادة تشكيل تلك المتلازمات في ظرف مختلف لتوسيع نطاق الحياة، وهذه القصدية منحت السؤال غاية التعلّم. والتي انتجت علمي الفلك والزراعة، بحيث أصبحت إمكانية إنتاج تجارب متشابهة بتجربة أصل المتلازمات الطبيعية محققة في عمومها؛ أي أن الإضافة هنا تراكمية بفعل الخبرة وليس إنتاج خبرة ممثلة لقيمة مضافة، وإن تحقق في ضوئها- الخبرة الجاهزة- التحسين والتعديل.
لكن المنحنى المعرفي لتحقق تلك الإمكانات رغم الإنتاج المعرفي لإحداثياتها ظل في مسار التقليد لذات المتلازمة وارتباطاتها الوظيفية.
صحيح أن قوننة إحداثيات علمي الفلك والزراعة كان أول إنتاج معرفي للبشرية أسهم في تطوير الثقافة المعيشية للإنسان؛ إلا أنها لم تمثل الثورة المعرفية الأولية، لأن السؤال الذي ينبني على حاصل معرفي مستقر بالتلازمية والقوننة والحتمية لا يعدّ سؤالاً معرفيًا أصيلاً أو لا يمكن أن تنبني عليه فلسفة المعرفة أو يُشكل بنية معرفية؛ لأنه ليس حاملاً لأي لثيمة جدلية.
هل هذا يعني أن السؤال المبني لفلسفة المعرفة يتميز بخصائص؟.
كل سؤال يمثل قيمة، وبذلك فكل الأسئلة باختلاف درجاتها ومقاصدها تتساوى في القيمة التي هي محققة في حصول عموميتها، وهذا الأمر لا يمكن تطبيقه من حيث التساوي في الأهمية لأسباب عدة منها الاختلاف على مستوى القصدية والأثر والمضمون ونوع الإنتاج، وهذا حديث آخر.