محمد عبد الرزاق القشعمي
عرفت الدكتور جاسر بن عبد الله الحربش أول ما عرفته كاتباً يغلف كتابته بالسخرية اللاذعة وبالذات عندما قرأت له رده على الكاتب الإسلامي أحمد محمد جمال ينعي فيه أنور السادات بعد مقتله تحت عنوان:(أذكروا محاسن موتاكم) فرد عليه الحربش ساخراً، ماذا نذكر عنه إلا سوء عمله بشق الصف العربي والتطبيع مع العدو الإسرائيلي الصهيوني، وكان لمشاركة الدكتور غازي القصيبي مؤيداً الحربش مما سبب في إيقاف النقاش، أظن ذلك في عام 1401هـ مع تتبعي لما ينشر في الصحافة المباركة وجدت له مقالاً في جريدة اليمامة في عددها (210) الصادر بتاريخ 24/8/1379هـ -أي قبل ستين عاماً- تحت عنوان: (إلى فتاة الصحراء) وكانت الكتابة عن تعليم المرأة في أوجها، إذ صدرت الموافقة على افتتاح المدارس النظامية لتعليم البنات في ذاك الوقت، وكان المقال يناقش ظاهرة الزواج من الخارج وقسوة الزوج على زوجته السعودية، وإنه إذا سافر للخارج أحضر معه هدية لها هي زوجة أخرى، فقال الجاسر ضمن ما قال لفتاة الصحراء: (.. وإني لعلى إيمان راسخ بقدرة الفتاة وذكائها لو روعيت مشكلتها من قبل المسؤولين بعين الاعتبار ولنا أمل كبير فيها بعد الأمر الملكي الكريم بتعليم البنات الذي ولا شك سيغير من نظرة الشباب إليها..
وقال لي إنه كان وقتها بالسابعة عشرة من عمره .. وإنه ما زال طالباً بالثانوية .. عرفت بعد ثلاث سنوات أنه قد ابتعث لدراسة الطب في ألمانيا مع زملاء أذكر منهم محمد المفرح ومحمد المعجل.
شكت زوجتي من ألم في معدتها مما اضطرني لسؤال آخر عن أفضل طبيب متخصص في الباطنية فنصحت بالذهاب بها للدكتور جاسر الحربش في المستشفى الوطني بشارع الستين أمام مستشفى قوى الأمن الداخلي. وفعلاً ذهبت بها وبدأ يسألها عم تشكو وبعد أن عرف شكواها سألها: هل تأكلين كراث؟ مستدلاً من لهجتها، وكان وقتها يطلق على أهل عنيزة أنهم أكلة الكراث وهو من الخضرة من فصيلة البصل –فقلت مستعجلاً إجابتها له - بل تأكل الحبحر الأشد حرارة (فلفل) لمعرفتي إنه من مدينة الرس وهم مشهورون بأكل الحبحر الحار عن بقية مناطق المملكة – فقال لي لماذا لا تمنعها من أكله ما دام يضرها؟ فقلت إنها لا تسمع كلامي! فرد بسخرية: ما دامت ما تسمع كلامك طلقها .. فقامت زوجتي غاضبة وخرجت من عيادته وهي تقول كلاماً سمعت منها بعضه .. إن هذا ليس دكتور هذا عربجي .. أوقف عن الكتابة بعد سخريته من السادات .. وعرفت بانتقاله للتدريس بكلية الطب بجامعة الملك سعود ومزاولة مهنته في مستشفى الملك خالد الجامعي .. وبحكم عملي برعاية الشباب .. وأمانة جائزة الدولة التقديرية للأدب فقد طلب من جامعة الملك سعود التعاون لطباعة بعض مطبوعات حفل الجائزة الثاني وتكليف أحد الأطباء لمتابعة ضيوف الحفل وبالذات المرشحين للجائزة الذين يحتاجون إلى عناية خاصة .. وكان منهم الشاعر طاهر زمخشري رحمه الله- والذي يحتاج إلى غسيل الكلى يومياً .. وكان الدكتور جاسر الحربش هو المرافق له والمتابع لحالته الصحية .. فكان يجلس إلى جواره وقت غسيله الكلى بالمستشفى (الديلزة) وكان يساجله بالشعر ويمازحه حتى أصبح محبوباً له فأهدى الزمخشري له قلم (باركر 51) الذي كان يحتفظ به من سنوات طويلة مع مجموعة من دواوينه .. ومازال الحربش محتفظاَ بقلمه الأثري منذ 35 عاماً..
علاقتي مع الحربش تطورت إلى صداقة فأصبحت أدعوه مع آخرين لمنزلي. وألتقي به في حياته التي افتتحها في شارع جرير بالملز .. وكنت أرافق والدتي رحمها الله .. عندما تشكو من ألم في المعدة فكان ينصحها بعدم الإكثار من تناول القهوة .. وعدم تناولها دون الأكل فالقهوة والهيل مضران .. وكان لا ينصح بالإكثار من تناول الأدوية التي يكيلها غيره لمرضاهم، فعندما يحضر أحدهم الأدوية يطلب منه استعمال نوع واحد منها أما البقية فضررها أكبر من نفعها فيطلب منه وضعها في وعاء الزبالة .. يستغرب البعض ويمتنع لأنه دفع بها مبالغ طائلة ..
مشكلتي وغيري مع الحربش أنه لا يأخذ أجراً ممن يعرفهم .. وبل ويعطي بعضهم أدوية من المتوفرة في العيادة وبالذات من يرى أنه من ذوي الدخل المحدود، رفض أخذ أجرة الكشف من كثير من معارفي مجرد أن يعرف أن له علاقة بي يرفض أن يدفع أجرة الكشف فلديه إشارة متفق عليها مع المحاسب أن لا يأخذ أجرة ممن على ورقته تلك الإشارة..
اتصل بي بعد أن عرف أن ابني يعرب مسؤول في محطة القطار بطلب الحجز لأولاده للسفر للمنطقة الشرقية لصعوبة توفر المقاعد في إجازة العيد، ففرحت وطلبت من ابني ألا يأخذ منه الأجرة لرد جزء ولو بسيط مما قدمه لنا، ولكنه بعد شهر وعند مراجعة أحد الأقارب له بالعيادة، قال أن لديه رسالة ليعرب طلب مني إيصالها له .. وبمجرد فتح المغلف وجد قيمة تذاكر القطار .. ومرة اضطررت للاتصال به لأستشيره لتعرضي للأنفلونزا الحادة فحضر لي بالمنزل وحاولت معه أن أكافئه فلم أجد سوى كتاب (الإمت اع والمؤانسة) لأبي حيان التوحيدي .. ولم يقبل أخذه إلا بعد أن أقسمت له بأن لدي نسخة أخرى منه .. ذهبت مع ابن عم لي للمستشفى الجامعي فقابلته بالصدفة وسأل عما يشكو ابن عمي، فقلت إنه يشكو من ألم في مقعده فلعلها (البواسير) فقال له: كل الناس لديها بواسير .. فحتى تتقبلها اجلس على مؤخرتك على كرسي أو على الأرض ونصحه بألا (يبوبز).
عاد للكتابة وبصراحته ووضوحه دائماً ما يعرض نفسه للمنع مؤقتاً .. لم يكن لوحده يكتب فقد أصاب ابنه الدكتور عدي بالعدوى فإلى جانب تخصصه بطب الأطفال إلا أنه كاتب وقاص ومترجم، وقد ألف مجموعة قصصية (حكاية الصبي الذي رأي النوم) نال بها جائزة كتاب العام سنة 1430هـ فقد قالت العرب (من شابه أباه فما ظلم).
تحية تقدير وإعجاب للصديق الدكتور جاسر الذي فشل فشلاً ذريعاً في معرفة طريقة للربح أو التجارة والذي قفل عيادته التي لم يجن منها إلا قدر أجرتها مما حمله على التعاقد مؤخراً مع أحد المستشفيات الخاصة لمزاولة العمل وفق تخصصه ليومين في الأسبوع وبقية وقته يقضيه بالقراءة والكتابة وزيارة أصدقائه، ولعب البلوت ولو مرة واحدة أسبوعياً. متعه الله بالصحة والعافية وطول العمر.