د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** قبل أكثرَ من ثلاثين عامًا، ولم يكن صاحبُكم ذا عهدٍ بالصِّحافة وتلاوينِها - زار عيادة الدكتور جاسر الحربش - برفقة والده - رحمه الله - (1352-1441هـ) وكان يشكو من ألمٍ مزمنٍ في بطنه، ومع أنهما كانا يعرفان الطبيبَ باسمه ووسمه دون أن يعرفَهما فلم يتحدثا معه بغير ما قصداه من أجله، وبدا لهما ذا هيبةٍ وجديةٍ وحزم فكفاه أن حكى قليلًا وكتب الوصفة سريعًا وحاسبا عند الاستقبال ومضيا، وتمنى أن لم يمنعه وقتٌ محدود وحياءٌ ممدود من محاورته ليعيَه شخصًا مثلما عرفه نصًا، ومرت الأعوام ولم تَجُد بلقاءٍ إلا قريبًا وعابرًا، ولكنهما تواصلا فكرًا فانسجما عن بُعد، وتحاورا دون مواجهة، وكما هو طبيبًا رآه كاتبًا فأسلوبُه قوي ومفرداته منتخبة ومتنُه وطني ومُثُلُه عروبية، وتكاتبا حين قرأ مقاله الوداعيَّ في الجزيرة فبعث إليه:
** (تألمت وتأملت وتساءلت: إلى أين نسير؟! نأيُك موجع؛ فلعل هذا الخروج المُرّ يأذن بكتابٍ نقرؤه لك وعنك في زمنٍ انكفأ كباره واكتفى صغارُه «...») وأجاب بأنه: (باقٍ متابعةً وذاكرةً وروحًا، وأن الإخوة في الجزيرة لم يريدوا له الرحيل لكن سأم الشيخوخة وانزعاجها من صراخ المرحلة الشبابية صرفته «...»)
** اختار أبو عدي سمة «الكاتب الحر» كما هو نهجه؛ فتوقف ولم يقف، ووصل مقالاته بسواها ليغدوَ أحد أبرز كُتَّاب المقالة الذين لم يغادروها إلى شعر أو رواية أو نقد، وهنا تميز له وتحيز ضدّه؛ فلو كان روائيًا أو ناقدًا لفرغ له النقاد ودانت له منابر الأندية والجمعيات والمنتديات داعيةً ومستدعيةً ومصطفًا مع من تقام لهم الأمسيات وتدرس آثارهم في الأبحاث وعند الترقيات، لكنه قدر كاتب المقالة التي تسيَّدت في مرحلة متقدمة من تأريخ العرب الأدبي وقد تعود؛ فالزهو بفن فوق آخر هو الذي جعل الشعر يتقدم ثم يتوارى، والقصة تزدهر وتكاد تندثر، والرواية دون منافس زمنًا خصبًا، والظن أنه لن يدوم.
** تبادلية مواقع لم تكن لتتمَّ بهذه الحدة لولا أنه زمن التغريدة « التوقيع»، وهل يطلب من زمنٍ لاهثٍ يركض خلف عبارة مقننة الحروف يكتبها القادر والعاثر أن يجد وقتًا لقلم مملوءٍ بعمق الطرح وانسيابية الأسلوب وجدية العرض وجِدَّته وجرأته وتميزه؟!
**أعلن مغادرته موقعه الكتابيَّ الأخير، ودعاه صاحبكم إلى مناسبة ثقافية- اجتماعية « خارج الرياض» فاعتذر، وربما شكا من ضآلة التفاعل وكثرة الشواغل، ولعل العاملين سيلتحقان به في مواقع أخرى، ويعلم الدكتور جاسر أن حضورَه حبور، وأن الصامتين الذين يقرؤون ويقدرون ويتأثرون أغلبيةٌ يصعب الرهان عليهم كما يستحيل الرهان دونهم.
** وهذا الملف لا يُنصف أستاذنا الكبير؛ فقيمته أكبر، غير أنه رسالةُ وفاء له واعتداد به؛ لنجد في الرموز النابهة مثلِه ما نتقوى به على تأييد بقاء النخب الحرة النزيهة الراقية في مواقعها وعدم إسلامها للشعبوية الجارفة؛ فملايين المتابعين رقمٌ دون دلالةٍ حظي به الأقل دون الأجلّ، ولن يسعد من سيقرأ تأريخنا الثقافي « مستقبلًا» بمخرجات «الفاشنيستا «الذكورية والنسوية وتقاسيمها؛ ف»ليت أنّأ بقدر حب» الدكتور جاسر «نقتسم» ثنيَه عن العزلة وحثَّه على تدوين تجربته ورصد كتاباته.
** الفكر لا يباع.