في عالم الجودة وشؤونها وشجونها، إذا أردت أن تحسن إنتاجيتك فعليك أن تقيسها من خلال منظومة أكثر تطورًا ودقة، لتعرف أين أنت ومتى تصل؟، هذا ما يعرف أو يسمى بالإنجليزية Benchmarking قبل عدة أيام طُلب مني سيرة ذاتية، تعكس وتجسد مسيرتي المهنية والثقافية، لم يكن الطلب في حد ذاته يدعو للاستغراب أو القلق، ولكنه جاء بتوجيه من علم من أعلام الثقافة والأدب في بلادنا، إنه الدكتور إبراهيم التركي.
الطلب طبيعي في ظاهره، ولكنه بالنسبة لي وللآخرين كان مسؤولية كبيرة وعظيمة لكل من نال شرف الكتابة مجايلاً -بحكم الزمان والمنبر- مع الجميل الآسر الأسير إبراهيم التركي، فهو آسر بحروفه وجميل ما يكتب سواء كان مقالاً أو كتابًا أو حضورًا رقمياً من خلال وسائل التواصل الاجتماعية التي تابعته من خلالها، وهو الأسير لضوابط الحضور النقية التي ترتكز على أبعاد أخلاقية عظيمة تجعل منه واحدًا من أكثر المثقفين التزاما وعدلاً واعتدالاً عند تعاطيه مع كل الفرقاء والأشكال والإشكالات الثقافية التي عادة عند الاقتراب منها أو ملامستها فإنها قد تسقط البعض في متاهات الخصومة وتوابعها، أو محاولة إصلاح خطأ ما، قد يكلف صاحبه ثمنًا غالياً، أو تعديل موقف باتجاه بوصلة نفوذ فردية أو مجتمعية جديدة تضمن البقاء وقد تصادر النقاء والذي يعد بضاعة المثقف وزاده وقدرُه وقدرْه في خارطة الزمان المعرفية وتأثيراتها وانعكاساتها على المكان ورموزه، شهوده ومشاهديه، لكن التركي كان استثناء في حضوره وإنتاجه، فهو يترك الأثر الذي يمعن في التأثير، بعيدًا عن كل متاهات ومزالق إشكالات الحضور والنجومية وطرح الرأي.
التركي عرفته كاتبًا ثم مؤلفًا وأخيرًا (سنابيًا) محترفًا، وفي كل أحواله يظل مؤثرًا في المشهد الحياتي بشكل عام والثقافي بشكل خاص.
حضوره الكتابي، كان وسيظل يمتعني ويطربني، يصيبني بالدهشة، والأخيرة ما زالت مستمرة معي من مقال إلى مقال ومن مقام منبري إلى مقام رقمي يومي أخاذ جميل وجديد.
التركي على مستوى المقال وحدة متفردة بذاتها، يكتب بأسلوب واحد ولكنه أسلوب مكتمل الدهشة دائمًا، فإيقاع كلماته قد يوقعك في فخ تقليده، أو محاكاته أو مماحكته، خاصة عندما تكون مبتدأ تحاول صنع تاريخ كتابي لك، يجعل لاسمك حضورًا بين الآخرين.
الإيقاع الكتابي لمقالاته يستفزك فتطرب، فتجد نفسك لا شعوريًّا منقادًا لشغف القراءة ومتعتها الذي يتغلب في حضرة التركي وكلماته على هاجس الكتابة وشهوتها، بعد أن جلاها لك أمهر عازف وأكفأ من دوزن الحرف فرقصت الكلمات على وقع ألحانه وأشجانه.
ومع الغزارة في إنتاجه الكتابي على مستوى المقالة وانضباطيتها، فإن التركي لم يتغير سيرًا ومسيرة ولم يصادم توجهًا ولم يصادر فكرة تخالفه أو تختلف معه، والثقافية في حظوته وعهده تشهد تنوعًا كتابياً وسقفًا علويًا يجعل الآخرين يررومونه قراءة وكتابة ومرجعًا لكثير من الدراسات والشواهد الثقافية للباحثين وكثير من المهتمين.
أما على مستوى كتبه فلعل الزمن يسعفني لقراءة تلك الإصدارات فهي إضافة -ولاشك- للمعرفة الإنسانية قبل أن تكون إضافة لمشهدنا الثقافي، والمقالات وجودتها مؤشر مهم وصادق على جودة تلك المؤلفات وأهميتها.
قد تتساءلون وما علاقة Benchmarking بسيرتك الذاتية وبالتركي صاحب الإطلالة الوارفة الماتعة النقية؟.
والجواب، يكمن في أن سيرتي الذاتية ستكون بكل شواهدها وأحداثها وما سيستجد فيها قاصرة على بلوغ ضوابط التركي المهنية، وتجربته الأدبية الغنية.
إن الحديث عن الذات في حضرة أديب أريب كالتركي ليعد مأزقًا ثقافيًّا مقلقًا، فما بالك وأنت توثق هذه الذات القلقة في ورقة وتجعلها سيرتك الذاتية التي سيقرأها علم لا تجاريه في تجربته ولا حضوره وشهرته، وعندما تبدأ بقياس تجربتك وتحاول تحسينها قياساً بتجربة التركي ورسوخها وسبقها، تجد أن الحكاية ببساطة يمكن اختزالها واختصارها في هذا المشهد:
أنت تسير على الطريق تبحث عن نفسك عن أثر يبقيك حيًا في حياتك وبعد مماتك
هو ينتظرك من واقع مسؤولياته وتجاربه، يأخذ بيدك بقلمك بحلمك بطموحك، ليضعك على المسار الصحيح، هنا تبدأ مسؤوليتك أنت في تتبعه، ليحضر من جديد السؤال الأكثر قلقًا: عندما تنتهي من تتبع أثره وتلمس آثاره، والسير على نهجه، هل سيسعفك العمر والتجربة لتصنع لك أثرًا خاصًا يبقيك في المشهد القادم، في زمن المابعد، موهوبًا أو مثقفًا أو صاحب تأثير، تبناه التركي كقدوة ورعاه وشجعه كركن أصيل وعلم من أعلام الفكر والثقافة والأدب في بلادنا؟.
** **
- علي المطوع