لا أعلم من اخترع مصطلح: (الأعدقاء)؛ ليُطلق على العدو المستتر في ثياب صديق، لكنني أعلم بأنّ تداول هذا المصطلح قد أصبح واسع الانتشار، ولم يعد هناك من يجهل معناه.
لقد تعمّد هذا المصطلح إخفاء الجزء الخاص بالصدق من لفظة (أصدقاء)؛ فهو يحمل معنى الصدق بصيغة أفعل التفضيل (أصدق)، وأحل محله الجزء الأول من لفظة (أعداء)، وألصقها بآخر لفظة أصدقاء، وكأنها وعد بالعداء.
ومهما يكن من أمر استحداث هذا المصطلح، وأسباب صياغته على هذا النحو، إلا أن كل ذلك لا يغير من حقيقة أنني أنا شخصيًا - ومثلي الكثير - ترعبني الشخصيات التي تنزوي تحته.
ترعبني الشخصيات القادرة على إقناعك بأنها بريئة، وطيبة، بينما هي عدو في زي صديق، يتعمد الاقتراب منك، ومحاصرتك بالاهتمام. يقترب منك ليس حبًا! بل حتى لا تفوته تفاصيلك التي سيضع في طريقها الأحجار باكرًا إن عرفها في وقت مبكر.
يغيب، وإذا ما شعر بأن ثمّة حدثًا قد ظهر على السطح، يخص نجاحاتك، عاد للاقتراب بدعوى الاشتياق.
هؤلاء يذكرونني بشخصية (جوليا) في رواية (1984) (لجورج أورويل)؛ فقد كانت
ثائرة في السر على الحزب، وتتمنى إضرام النار فيه حتى لا يبقى له بقيّة، أما في العلن فكانت تناصره، وتبارك خطواته، وتُسوّق له بحماس!
هذه الفئة المرعبة من الناس، ولكثرة انتشارها، قد جعلت معظم الناضجين -تحديدًا- يميلون للعزلة حتى لا تتوالى عليهم الصدمات.
إنّ (الأعدقاء) على المستوى الشخصي من السهل معرفتهم، والحد من تغلغلهم في حياتك، أما على المستوى الجماعي فلن تعرف وجوههم بسهولة لقلة المخالطة؛ فأنت لا تعلم أن في عملك صديقًا بعيدًا، لا تعرف منه إلا وجهه البشوش، واحتضانه المفرط لك كلما رآك!
إنّه قد يمتدحك بينك وبينه، ويتنكر لك أمام الجموع خشية أن تسير الركبان بثنائه عليك، ويكون من أولئك الذين أشهروك بلسانهم المعسول، وهم يريدون أن يطفئوا نورك.
وألدّ (الأعدقاء) خصومة هم الذين يتكاثرون في بيئة العمل، ولاسيما الإدارية منها، فيزكون من الرؤساء أضعفهم؛ ليحكموا باسم غيرهم، وينتقموا بطريقتهم الخاصة من أشخاص آلموهم في الماضي، ولو حتى بمجرد سطوعهم.
وأتعس الرؤساء من كان أذنًا!
من يأذن بالتقرب منه، ويسمع من هذا وذاك تحت اسم المشورة، فيوجهون إدارته دون أن يشعر، ويديرون آراءه بنواياهم دون أن يحس بخطورة ما يفعل، حتى إذا ما تراكمت عليه الشكاوى فروا من حوله، وأسقطوا إدارته، وكشفوا خفاياه التي أظهرها لهم في ساعات ضعفه.
ثم تتحول كل المساحات بعد ذلك إلى عداء، والرؤية تأخذ لون العتمة، وينفضّ الجميع بعداء جاء على هيئة صداقة في بادئ الوقت.
** **
- د. زكية بنت محمد العتيبي