لم تأتِ زمالتي أخي وصديقي الدكتور عدي بن جاسر الحربش بشرف معرفته فحسب، لكنها توطدت بصداقته، ودخول بيته، ومعرفة والده الدكتور جاسر، وانتهت إلى مصاهرة أسرته الكريمة. وبهذا أزعم بأني قد حظيت بمعرفة الدكتور جاسر على مناح عدة؛ فقد عرفته أول الأمر باتصال هاتفي - شجعني عليه عدي - أشكو إليه اعتلالاً صحيًّا، فأوصاني بالاهتمام بنوعية الغذاء، والإكثار من الماء، وشدد على سوء تغذية الشباب من جيلي - وهو محق - ولم يتعجل في وصف أدوية دون حاجة، وهذه - بلا شك - نصائح طبيب حاذق، ووالد حكيم.
وإذ دخلت بيته عرفته عن قرب؛ فوجدتُ له في كل ميدان راية حِكمَة؛ فهو في الطب قِبلةُ المرضى وترجمان الأعراض، فكم احتار غير واحد من الأقارب فيما دهاهم من أوجاع، وحيروا أطباءهم، فيجدون عند الدكتور جاسر ضالتهم في تشخيص الداء ووصف الدواء. قال مرة: «لو كان لي من الأمر شيء لما اختبرتُ طلاب الطب إلا في الاستماع للمريض وأخذ تاريخ المرض»، وفي قوله هذا حكمة؛ فهي مهارة نخشى عليها من الاندثار اليوم، وهي منتهى العناية بالمريض بأن يفتح له طبيبه أذنيه وعقله، ويسعى للتخفيف عنه، وزرع الثقة فيه بالاستماع له، بينما يعمل عقله في محاولة حل لغز الأعراض للوصول إلى التشخيص السليم، ثم العلاج بإذن الله.
وفي مجال الأدب والثقافة، لا يكتمل المشهد إلا بأبي عدي، فإلى ما يبهرك به من حافظة راسخة لعيون الشعر العربي، ومعرفة ملمة بالأدب العالمي، تجده يخضع النصوص لمشرط الحكيم، فيسقطها على أوضاع اجتماعية وسياسية، تفتح عينيك على ما لم ترهُ في النص من قبل. هو مثل والدي أبي أوس يضع الشعر الجاهلي على قمة القصيد العربي، وما زال يعلق في ذهني إنشاده لقصيدة عبد يغوث الحارثي، وتأكيده للبيت (أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّ المَلاَمَةَ نَفْعُها = قليلٌ وما لَوْمِي أَخِي مِن شِمَالِيَا)، مؤكدًا بذلك على قيمة التسامح التي شحت بين الناس اليوم.
وأما في الفكر والفلسفة والسياسة فبحرٌ لا ساحل له، تشهد بذلك زاويته التي انتخب لها جريدة الجزيرة منبرًا، وعنونها (إلى الأمام)، يبث من خلالها فكرًا للمجتمع، وأملاً للنهوض به، مراهنًا بذلك على المستقبل، وهو من صارع جَهْد الأمس، وعاصر رغدَ اليوم. فتجده يعالج مسائل اجتماعية شائكة بحكمة نحتاج لأمثالها، وقلّما تراه انطلق في مقاله من تجربة شخصية أو حكاية سمعها، وإنما يطرح المسألة المعقدة بأسلوب سهل ممتنع، ومباشرة دون صدام، وإيجاز بلا خلل، وشيئًا فشيئًا يغوص مع القارئ في عمق الفكرة، ويضع له رأيه في الحل. ولهذا لا تكاد تخلو مجموعة من مجموعات الواتساب من مقالات الدكتور جاسر، لا لجمال لغته وسهولة طرحه فحسب، ولكن لمتعة إعمال الفكر فيها، وذلك شقاء النعيم كما قال المتنبي!
وإلى جوار حكمة أوتيَها، يُعرفُ بعناية جُبل عليها. رأيتُ هذا في كل منشط شهدتُه معه؛ فهو فائق العناية بأحفاده؛ فلا نجده يكف إذا مُرض أحدهم عن متابعته والسؤال عنه والتوجيه لرعايته. كما أنه يسدي إلينا نصحه، ويهدينا مشورته حول شؤون تربيتهم، وعلاقتهم بإخوتهم، فنجد في الاستماع له خيرًا لم نكن لندركه لولا أن أرشدنا إليه. كذلك شهدتُ صورًا من عنايته بأخَويه الأكبرين سليمان رحمه الله، وعبدالرحمن منَّ الله عليه بالصحة والعافية، تعطينا دروسًا عملية للوفاء والتراحم بين الإخوة. فلا غرابة أن تجده يبث في أبنائه ما يجعلهم أمثلة تحتذى، وإن بصرت بأمرهم لوجدتهم اقتسموا مواهب والدهم، فعديٌّ أديبٌ ومفكر، يمتهن طب الأطفال، حلَّق في سماء الثقافة بأدبٍ راقٍ تتواضع عنده اجتهاداتنا، فأصدر مجموعتين قصصيتين طارت بهما الركبان لما فيهما من فن جميل ولغة متدفقة وفكر عميق، إضافة إلى ما نشره متفرقًا في المنتديات الإلكترونية، وأملي أن أشهد نثاره مجموعًا في كتب منشورة. أما ابنه الثاني أوس، طبيب القلب الطيب القلب، فذو عقلية تحليلية، تبهرك في الاستنباط والاستدلال، ولاسيما في التشريح السياسي والاجتماعي، تكاد تجعل المنطق طوعًا لمراده. وأما آخر العنقود معن فهو طبيب حديث التخرج، أخذ عن والده شغفه بالعلم، فنشر أبحاثًا علمية في مجلات عالمية قبل أن يتخرج من الكلية، وأراه يبزُّ أخَويهِ طبًّا. كما أنه اقتدى بوالده بعنايته الفائقة بأسرته، فتجده على غير شاكلة أترابه يتحلى بالإيثار لا الأثرة، والوقار لا الطيش، فوفقه الله ونفع به.
أسعدُ دائمًا بمصاحبة الدكتور جاسر إلى المناسبات الاجتماعية، وأنتهز الطريق فرصة للانفراد به، واستنطاق عقله. قلت له مرة: «ماذا جنينا من العلم إلا التعب، ولو سلك الإنسان دربًا آخر لفتح الله عليه أبواب رزقه»، فقال: «لا تطمح إلى أن تكون الأغنى مالاً، بل كن الأغنى نفسًا عن الحاجة لأحد، ولا تفرح حين تقبل بتحية الناس، بل افرح حين تُذكر في غيابك بالخير».
{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}...
** **
د. أوس بن إبراهيم الشمسان - عميد كلية الصيدلة بجامعة الملك سعود