في منتصف الثمانينات الميلادية، عندما كنت طالباً في كلية طب جامعة الملك سعود بالرياض، كنت كبقية زملائي نعاني من مشكلتين، جفاف وصعوبة المواد التي ندرسها بالإضافة إلى صرامة وتعالي كثير من الأساتذة بحيث يصعب أو حتى يستحيل أحياناً أن يشعر الطالب بارتياح تجاههم فضلاً عن إمكانية نشوء علاقة تتصف بالود مع أحدهم، قد يكون السبب هو طبيعة تلك المرحلة التي تقتضي مواصفات محددة للأستاذ تحكم علاقته بتلاميذه، من أهمها الحرص على وجود مسافة بينه وبينهم تضمن عدم كسر الحاجز النفسي والاقتراب من شخصية الأستاذ لما قد يسببه ذلك من اهتزاز الهيبة. كان ذلك جزءاً من أدبيات علاقة الطرفين، وقليلاً ما نجد أستاذاً يتجاوز هذه القاعدة ويؤنسن علاقته بطلابه.
كان جُلّ أساتذتنا السعوديين آنذاك نتاج جامعات الغرب، يتمثّلون في محاضراتهم وتعاملهم معنا بريستيج أستاذ الجامعة هناك في تلك الحقبة بكل تعقيداته، هيئةً وأسلوباً في المحاضرات وخارجها، ولكن من بين الفئة القليلة غير الملتزمة بذلك النهج كان يوجد أستاذ شعرنا بارتياح خاص تجاهه وانجذاب تلقائي نحوه خلال مدة قصيرة من محاضراته. لم يكن يهتم كثيراً بالمبالغة في مظهره ولا يحرص على الطقوس الشكلية التي اعتدناها من كثيرين غيره في المحاضرات، عرفنا بنفسه في أول محاضرة ببساطة شديدة وتواضع أشد ثم دلف إلى محتوى محاضرته، ورغم أنه درس باللغة الألمانية إلا أنه كان جيداً في الانجليزية التي ندرس مقرراتنا بها، لكن الأهم من كل ذلك أنه كان له طريقة فريدة في تبسيط مادته رغم صعوبتها وحساسيتها، فقد كان أستاذاً متخصصاً في طب الكلى، يحدثنا عن معادلات كيميائية دقيقة وجزيئات غامضة وعلل شديدة التعقيد في كليتين تمثلان عضوين صغيرين في جسد الإنسان لكنهما المصفاة المهمة لكل ما يحدث فيه من تفاعلات. كان أسلوبه ممتعاً وجذاباً ورشيقا بحيث تنتهي المحاضرة وكأنها بدأت للتو، وكان قريباً من الطلاب لا يضجر أو يتأفف من أسئلتهم واستفساراتهم، وكان بارعاً بحق في أن يكون مختلفاً، ذلك الاختلاف الإيجابي الجميل. هكذا كان أستاذنا الدكتور جاسر الحربش، الذي أجزم أنه ما زال حاضراً في ذاكرة أجيال الأطباء الذين أسعدهم الحظ أن كانوا تلاميذه.
مضى الزمن، ولم يخطر ببالي أن مفاجأة الأقدار ستجمعني ذات يوم بالدكتور جاسر الحربش في مجال آخر وساحة أخرى غير الطب، فجأة وجدت أستاذ أمراض الكلى يفتح عيادة أخرى في زاوية من زوايا صحيفة الجزيرة، يمارس فيها علاج أمراض المجتمع بذات القدر من البراعة في علاج أمراض الجسد. في عيادة الكلى يسعى الدكتور جاسر إلى تخليص الجسد من الإفرازات الضارة ومخلفات التفاعلات الكيميائية وحمايته من سموم الفشل الكلوي و»ديلزة» الدم إذا ما حدث ذلك، وفي كتاباته كان يحاول بإخلاص تلمس أوجاع المجتمع والاجتهاد في وصف روشتة مناسبة لكل صنف منها. كان حريصاً على تنقيته من سموم الفشل الأخلاقي والقيمي والعلمي والمعرفي. كان يضطر أحياناً إلى استخدام المشرط لفتح جرح مؤلم قليلاً كي يستطيع ديلزة دم المجتمع من الشوائب التي تسبح فيه. عندما بدأ الدكتور جاسر زاويته قبل عشر سنوات تقريباً أصبحت مدمناً على متابعتها، ليس من منطلق عاطفي كونه أستاذي، بل لما فيها من حمولات فكرية ومعرفية تفيدني كقارئ وتصقل مقدرتي ككاتب وتساعدني في العثور على أفكار مثيرة ومواضيع مدهشة والتنقيب عن مداخل وزوايا جديدة لتناولها. أصبح أستاذي كاتبي المفضّل، ثم صديقي الكبير الذي اكتشفت فيه كنزاً من الخصال النبيلة.
الدكتور جاسر ينتمي إلى صنف خاص من الكتّاب، ذلك الصنف الذي يأتي متوفراً على ذخيرة معرفية ثرية، وقدرة تحليلية واستنتاجية حصيفة، وأسلوب متماسك ومريح ومباشر قادر على إيصال الفكرة دون تكلف ودون إرهاق للقارئ، وأيضاً دون هوس بالانتشار والشعبوية. والأهم أن لديه قضايا يؤمن بها ويعرف جيداً أولوياتها وأهمياتها، لكنه أيضاً يتميز بفضيلة الاستعداد للحوار حولها والترحيب بآراء أخرى تجاهها لأن الهدف الأساسي والنهائي من الكتابة هدف نبيل، هو الإصلاح والتنوير المجتمعي والرقي الوطني، ومن أجل ذلك فإن هذا الصنف من الكتاب يتوفر على الشجاعة والثبات في مواجهة المتضررين من هذا الهدف، الذين لا تتحقق مكتسباتهم إلا في البيئة العطنة بتراكمات الترهل والخمول الفكري والنكوص المعرفي، ومن أجل استمرارها والحفاظ عليها فإنهم يشحذون كل أدواتهم لإطفاء المصابيح التي يشعلها كتاب مثل الدكتور جاسر، لكن النور إذا انطلق وانتشر يصعب انحساره.
في يوم الأربعاء 12 يونيو 2019 ودعنا الدكتور جاسر الحربش بآخر مقال في آخر إطلالة لزاويته، كان عنوانه (الخروج من هذه الزاوية )، ومن ضمن المبررات التي ذكرها للخروج أو التوقف قوله: «قررت العودة للكتابة في صحيفة الجزيرة العريقة بدافع وجوب الكتابة التنويرية في ذلك الزمن الذي بدأت فيه العربة الوطنية تتحرك إلى الأمام، بعد أن كانت الكتابة من قبل سباحة ضد التيار، أما اليوم فقد انطلقت العربة بسرعة فائقة نحو الأمام، بحيث لم تعد كتابات الرأي على النمط القديم تناسب الزمن ولا احتياجات المرحلة، ناهيكم عن أن قراء ذلك النوع النمطي من الكتابات في تناقص سريع. شباب اليوم من الجنسين لم يعد لهم النفس الكافي للقراءات الطويلة، ولا تجذبهم الانتقائية والتأنق في أساليب الكتابة، فهم يريدون المختصر المفيد وقد وجدوا ملاذاتهم ومناكفاتهم في حوارات التواصل الاجتماعي الحديثة».
حسناً يا مولانا، لا بد أن نحترم قرارك، ولكن اسمح لي أن أقول إن الكتابة التنويرية ما زالت واجباً لأنها حاجة كل المراحل، فكل مرحلة لا بد أن تكتنفها بقع من العتمة والتشويش والخلط بشكل أو بآخر تتطلب بالضرورة قدح مشاعل التنوير، التنوير حاجة تلازم الحياة مهما استمرت، وإذا كانت العربة الوطنية قد انطلقت بسرعة فائقة نحو الأمام فإنها أحوج ما تكون إلى التنويريين لأن السرعة الفائقة تحتاج إلى مزيد من التنوير لكشف العقبات والعوائق و»المطبات» التي قد تعترض الطريق، وقد تكون أضرارها أشد بسبب السرعة. اسمح لي يا سيدي أن أقول لن تكون وسائل التواصل الاجتماعي بجرعاتها السريعة المخففة الكثيفة وإقبال الشباب عليها بديلاً للكتابة الرصينة التي كنت أحد فرسانها، تشكيل الوعي وتشييد البناء المعرفي للمجتمع وبحث قضاياه بحثاً تشريحياً ومعالجتها بنيوياً هو مهمة النخبة المثقفة ذات الاتساع المعرفي والمقدرة الاستشرافية والاستشعار المنطقي للمآلات، وحتى لو كان المتلقون لطرحها قلة في المجتمع فإن التعويل في النهاية عليها وليس على الكثرة التي تطارد الوجبات السريعة فقيرة العناصر المغذية للفكر.
يا أستاذي العزيز: لقد أحسنت صحيفة الجزيرة بهذا الملف عنك لأنك تستحق أجمل التكريم وأغدق الحفاوة، ولكنك وأنت تقرأ مشاعر وآراء المشاركين فيه ألا تشعر أننا ما زلنا بحاجة لك، وأنك قادر على معاودة الصهيل الفاخر في مضمار الطرح الوطني والإنساني. بلى إنك من القادرين، فهل ننتظر مقالاً مفاجئاً عنوانه : العودة إلى الزاوية؟.
** **
- د. حمود أبو طالب