«الثقافية» - محمد هليل الرويلي:
بالتزامن مع هذا الملف الاحتفائي والاحتفالي، نهج «الثقافية» الذي عوّدت قراءها كل حين للاحتفاء بأحد المفكرين والنقاد والمثقفين المضيئين في حياتهم، خصصت هذا الملف في طليعة معاودة ملحق «الثقافية» للصدور للدكتور (جاسر الحربش)، الطبيب الشهير والكاتب التنويري التقدمي المتجاوز. لقد أحسن معلمنا المربي المدرسة والمنهج «عبدالله الغذامي» وصفه: عاش عمره كله بذائقة متفردة تميز علاقاته كلها بدءًا من علاقته مع تخصصه الرئيس طبيبًا شهد له الكل بنطاسيته.. ذاك هو جاسر الحربش سليل ابن سينا نطاسيا في مهنته وفي قلمه.
وبعد ذلك كيف يمكنني كتابة مقدمة لطبيب يتحسس الأقدام ليطمئن على القلب، وليبيح للذاكرة العبور أخنى عليها الدهر أن تأكل وتشرب ما تشاء ولا حرج بعد ثمانين عامًا من للأواء؟! هذا ما حيرني ولا غرو، كما أن ابنه المنسدر عُدي مشدوه قبلي «صحبة والدي»، إِذ كيمياؤه الروحية بدأت بالتفاعل بمجرد تجاوز نفود الثويرات، الأمر الذي أوقعه في لجة فكر والده طوال رحلة برية اصطحب فيها معهم مالك بن الريب، وزهير، وعنترة، وامرئ القيس، ليقنعهم أن في كل شبر من هذه الأرض المُعرقة في القدم معجونًا بماضٍ سحيق، وكم سجى هذا العدي وهو يرقب أباه يهتزّ طربًا، وتأخذه الأريحية، ويبدأ ينشد بعض قصائد هذه الأرض وما جاورها من تربة وطننا الغالي..
هذا وأكثر في هذا الملف الذي شارك فيه نخبة من المفكرين والنقاد والمثقفين، فلهم مني الثناء أجزله ومن الأرج أعبره على تفضلهم بتلبية دعوة «الثقافية» والتحليق بضيفينا وفضاءاته التي خبروها ولنحيط بجوانب أخرى من عوالم ضيفنا، دعونا ننتقل لهذا الحوار..
استطاع هذا الطفل الذي ذاق مرارة اليتم والمنتقل حديثًا من بيئة ساحلية ذات عادات وثقافة مختلفة في التعاطي أن يشق طريقه في مدينة الرس ويواصل مسيرته الدراسيه متفوقًا على أترابه ومن ذلك الفضاء المحلي، كذلك عبر مفاوز أوسع في رحلة ابتعاث لألمانيا تلاها رحلات ورحلات كان بطلها يتيم الأمس أنطاسي اليوم الاستشاري الشهير والإنسان المشارك الفاعل الذي لمع اسمه بأعمال الفكر والتنوير والتأثير من اليمامة للوطن ومؤخرًا في «الجزيرة»؟
افتتاح الحوارات بسؤال عن اليتم وما تلاه في أكثر السير الشخصية يتكرر روتينيًا وكأنه سؤال محوري للتعريف بالمحاوَر. إنه ليس كذلك، لأنك لو سألت كل الذين أمد الله في أعمارهم حتى بلغوا أو تعدوا السبعين ويسر الله لهم دروب النجاح ستجد نسبة اليتم فيهم عالية، بسبب ضعف الأحوال المعيشية والصحية في ذلك الزمان. تلك الأجيال تجمعت عليها مشكلات النقص في التغذية والأمراض والكدح المضني من أجل البقاء فقط، فكانت تفضي بأحد الوالدين وخصوصًا الأمهات، أو بكليهما إلى الوفاة المبكرة مخلفين أيتامًا صغارًا يتكفل بهم الأحياء من الأقارب لتزيد في أعبائهم المعيشية. كذلك الهجرة من مكان ولادة إلى مكان عيش جديدة كانت وما زالت النمط السائد في طلب الرزق والعلم. أغرب من هجرتي من السواحل الجنوبية (الشقيق) إلى القصيم (الرس) كانت هجرة والدي -رحمه الله- في الاتجاه المعاكس هربًا من الفقر المحلي ثم الزواج هناك، حيث ولدت مع ثلاثة إخوة لم يبق منهم غيري وأخي عبدالرحمن أطال الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية.
أعرف أن هذا السؤال غير محوري في اهتمام القارئ المهتم بما قد يفيده، ولكن سأذكر لغرض التعريف لمن يهمه الأمر أنني نقلت وليس انتقلت في سن الرابعة ولم أكن أدرك لماذا، في رحلة مضنية بعضها على الأقدام والدواب من الشقيق إلى جازان ثم إلى جدة، ومنها بسيارة البريد السعودي الحكومية إلى الرس كراكب بين الطرود والرسائل. تأقلمت في الرس سريعًا في بيت عمي جاسر السليمان الحربش رحمه الله وجزاه أحسن الجزاء، وهناك أجريت لي عملية الختان بالطريقة البدائية، حيث لم أكن قد نلتها بعد كطفل ولد في تهامة من المفترض ألا يختن قبل البلوغ.
فترة الحياة في الرس كانت متعة كاملة من البساطة والدراسة واللعب والأعمال الخفيفة التي يكلف بها الصغار آنذاك كعرف اجتماعي تربوي، مثل إحضار غنم الدار من الراعي أو جلب الرطب من الفلاح إلى المنزل، ومساعدة العم جاسر في حراسة الدكان الصغير عندما يكون منشغلاً داخل السوق.
الابتدائية كانت في الرس والمتوسطة كذلك، قطعتها بعض شهور في الرياض كطالب في القسم التمهيدي للمعهد العلمي الممهد لدراسة الشريعة واللغة العربية. وكانت المكافأة المالية في المعاهد العلمية آنذاك سببًا جاذبًا لالتحاق أعداد كبيرة من الطلبة بها، فأقفرت المدارس الحكومية المنهجية من الطلبة، وهي المدارس التي كان المطلوب منها توفير خريجين للوظائف المدنية الحكومية. ذلك جعل الحكومة تصدر أمرًا لإعادة من التحقوا في ذلك العام إلى المدارس التي جاؤوا منها، أي فصلهم من المعاهد العلمية. عدت إلى الرس في منتصف ذلك العام وأكملت المرحلة المتوسطة، ثم انتقلت إلى الرياض مرة أخرى. كالمئات غيري من الزملاء عملت موظفًا مدنيًا في وزارة الدفاع نهارًا وأكملت الدراسة في إحدى المدارس الليلية التي كانت منتشرة آنذاك، لأن الوعي في تلك الحقبة بأهمية البعثات الخارجية كان متوقدًا على مستوى خطط الدولة (أثناء حكم المغفور له الملك سعود) وعلى مستوى طموح الطلبة كذلك، استقلت من الوظيفة في النصف الثاني من السنة الدراسية الثانوية والتحقت بثانوية اليمامة، ثم ابتعثت مع أعداد كبيرة غيري من الزملاء إلى ألمانيا الغربية لدراسة الطب البشري.
أهم أحداث المرحلة التالية كان الزواج في الرياض أثناء عملي كطبيب عام في مستشفى الملك عبدالعزيز (طلال سابقًا) ثم التخصص في الطب الباطني في ألمانيا الغربية برفقة الزوجة وطفلتي الأولى، ثم العودة إلى الرياض والاستقرار. في الوطن عملت رئيسًا لقسم الأمراض الباطنية في المستشفى الوطني - التأمينات الاجتماعية، ثم لعدة سنوات أستاذًا مساعدًا ومحاضرًا في كلية الطب. في عام 1407 هـ تحولت إلى العمل الطبي الخاص ومارست كهواية فقط كتابة الرأي في الصحافة المحلية، اليمامة، الوطن، الشرق، ولكن الانتظام والتركيز كان في صحيفة الجزيرة.
رزقنا (زوجتي وأنا) بثلاث بنات أصبحن كلهن جامعيات عاملات وأمهات، وبثلاثة أبناء كلهم أطباء، الأكبر عدي أستاذ في كلية الطب تخصص أمراض الأطفال، مع التخصص الدقيق في أمراض الفشل الكلوي الطفولي وزراعة الكلى. الابن الأوسط أوس استشاري في أمراض القلب والشرايين، والأصغر الابن معن أنهى مرحلة الامتياز في مستشفى الملك خالد الجامعي قبل شهرين. لا أجد في هذه المسيرة الطويلة ما يميزني بقليل أو كثير عن زملائي الأطباء من نفس المراحل العمرية، ربما ما عدا الشغف بالكتابة ولا أعلم إن كان في ذلك ميزة أو مضيعة للوقت على حساب الطب والعائلة والعلاقات الاجتماعية.
يقول «أيمبرتو إيكو»: لقد تقبل الأنثروبيلوجيون أنواعًا من الثقافات حيث يأكل البشر الكلاب والقرود والضفادع والثعابين، ولذا يفترض ألا يُستغرب وجود بلاد يُسهم أكاديميون فيها بالكتابة الصحفية، الأكاديمي الحربش كسر حاجز التخصص سالكًا طريقًا صحفيًا مادًا جسوره لجمهور الناس على شكل خطاب عام تحت أفياء من نقد الظواهر الاجتماعية ومعاينة الأنساق الثقافية وتشكلاتها وتحليل الخطاب السياسي وتفكيك الخطاب الديني المتشدد. استفاء كاتبنا مذ بداياته على منهجية معينة فترفها أم ثمة العديد بجعبته بوصف المقال نوعًا من أنواع الكتابات الأدبية التي تتطلب التجديد والتجريب ومزيد من القراءات لموضوعات تستلصق من الأهمية في محاجر العيون تشعرك بأهمية أدائك لها ذرفتها يُراع كاتبنا إلى أن ألقى عصاه للاستقرار مؤثرًا الانزواء بعد كل هذا الترحال في أفياء عوالمه؟
ذلك تحصيل حاصل عند كل محب للمعرفة والتجديد، وأقول: أنعم الله عليكم في «الجزيرة الثقافية» لقاء ما وصفتموه بكسر حاجز التخصص، إلى آخر النسيج الذهبي الذي ألبستمونيه. من المعروف تكرر السؤال عن كثرة الأطباء الذين امتهنوا حرفة الأدب لدرجة أن بعضهم غادر الطب جملة وتفصيلاً وانشغل بحرفة الكلام والأفكار والظواهر الاجتماعية. أعتقد أن هذا السؤال يصبح عندما يحمل في ثناياه الاستغراب من تطفل الطبيب على الآداب وتفرعاتها مجرد سؤال اجتماعي ترفيهي جوابه موجود في داخل مهنة الطب. العلوم الطبية ليست كغيرها من العلوم المادية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء وإنما هي منهج متكامل من دراسة المادة في الجسد والعضو والخلية، ومن مخرجات هذه المادة الكيميائية والحركية، ومن إفاضاتها في الأحاسيس مثل الإحساس بالتعاطف والألم والمعاناة والحياة والموت وعلاقة العليل المفارق لأهله بما يتركه فراقه من تأثير على مجتمعه اللصيق والمجاور، وأيضًا وهذا شديد الأهمية بما يربط العلوم الطبية بالفقر والغنى والإيمان واليأس والأمل إلى آخره.
بناءً على ذلك من المفترض أن يكون الطبيب المنسجم مع مهنته أكثر الناس تأهيلاً للكتابة الأدبية بأنواعها ولكل الإبداعات المعبرة عن النفس والجسد والمجتمع والحب والكره والتحيز والإقصاء وغير ذلك. هذا الشغف الملتصق بالإنسان المرئي (الجسد) والإنسان المختبئ (النفس والروح) عند الطبيب يجعله يقرأ ويستمع ويسأل، فإذا أفاض بذلك معرفيًا أو طفح به الكيل من الانزعاج بدأ يكتب إما لنفسه أو للآخرين.
اليوم والمجتمع بأسره يشد يدًا بيد ويؤازر مشروعات الإصلاح والتحول التي أطلقتها القيادة الحكيمة ونحن مسرورون بهذا كله نستعيد الذاكرة الصحفية في هذا الجانب ونحتاج مزيدًا من التوضيح أنكم كنتم ضمن نخبة مثقفة آمنت بما تسميه التنوير والتجديد والتمكين تزعمت وتنادت للمطالبة والترويج للتغيير وفي المقابل تصدى لهذا التداول بعض «الممارسين للرفض» فخاض الحربش جانبًا أثيريًا من نضال الكلمة والفكر أمام بعض متاريس من الحرس متزعمين بالوكالة سيادة أفكار وقيم المجتمع وفضيلته وثوابته - كما كانوا يزعمون - أليس من مشروع في تلك الفترة استطاع جمع وصهر بوتقة التنويريين وممارسي الرفض كان من شأنه الاقتراب من الحقيقة التي يستوعبها العقل البشري والانضواء تحت نور هذا التغيير النافع للمجتمع وترفيد عجلة هذا التغيير ومؤازرة التحول بدلاً من أن قضينا عدة عقود جامدين أهدرنا خلالها طاقاتنا في صراع فكري استبسل له جمع في وجه جمع سفحت وسلخت فيها مصطلحات بفداحة كـ»الأدلجة واللبلرة والرجعية والظلامية والتغريبيين» وألصقت فيها التهم والأحكام على الجانبين؟
هذا السؤال عن السنوات التي أضعناها (وهي ليست قليلة) تحت سطوة الترهيب من التغيير أعدّه من أهم الأسئلة عن الظواهر الاجتماعية المعطلة لتطور المجتمعات، بسبب جهل من يمارس الترهيب أو يتكسب به، وباستسلام الناس لما يقوله هؤلاء عن أنفسهم. كنت وأقولها باعتزاز لا أخفيه واحدًا من الذين تصدوا لظاهرة الترهيب من التغيير ولقوا بسبب مواقفهم الكثير من العنت والمراقبة والتهديد. ظاهرة الترهيب نفسها كفعل كابح لتطور المجتمعات، ورد الفعل المضاد الهادف لخلخلة الكوابح كان هو الوقود التاريخي لتحرك كل المجتمعات إلى الأمام، والتاريخ يفيض بمن قتلوا أو نفوا وأحرقت أعمالهم وضيق عليهم في الرزق حتى ماتوا على حافة الجوع، ولكنهم كانوا السبب في تطور البشرية.
الحمد لله انتهت الحقبة الكابحة وبدأت العربة تتحرك نحو الأمام، ولا شك أن القرار السيادي للدولة جاء متوجًا لجهود المستنيرين من الحكام والحكماء والمدرسين والكتاب، وكذلك للاستنارة الشعبية التي فرضها الاحتكاك الحديث بالعالم. يبقى أن أؤكد على أهمية التوازن بين لزوم ما يلزم للتطور والتقدم العلمي والتقني والحقوقي، وبين ترك ما لا يلزم، بل يضر من الجنوحات الفردية من بعض من لا يميزون بين حريات العقل وكرامة الإنسان وحقوقه وبين حريات التصرف بالجسد كملكية خاصة، وهذه الجزئية الجنوحية تحتاج إلى ضوابط تثقيفية وقانونية يستحسن الإسراع في تطبيقها.
تعيش المرأة في بلادنا عصر التمكين والمشاركة الفاعلة التي تعدّت كثيرًا مما كان يسمى إلى عصر قريب محظورات على المرأة السعودية ليس أهمها القيادة ودخول مجالات العمل في قطاعات عدلية وأمنية حساسة وتشارك في الفعاليات المجتمعية الترفيهية والرياضية كشريك أساس بعد أن كان وجود اسمها في واحدة من تلك القطاعات يثير الريب أو التشكك في إمكانات النجاح والتطوير واستلهام الطريق المستقبلية للأبواب الأوسع المشرعة في حركة المسير بالمجتمع بما فيها طريق المرأة ذاتها. ماذا يمكن للحربش القول هنا وهناك وهل ما زال في جعبة كاتبنا سطور يقدمها للمرأة في بلادنا؟
ليس لدي ما أضيفه عن تمكين المرأة سوى التذكير بحقوقها الأساسية: حقها الكامل في العلم والعمل والكسب المادي والمشاركة في الفضاء العام والتثقيف والترفيه في مجالاتها المفتوحة للمشاركة الاجتماعية، وحقها في الحركة الحرة بضوابطها الأمنية والأخلاقية التي تضمنتها السلطات. الإكليشة المكررة عن شلل نصف المجتمع من دون عمل المرأة رغم صحة محتواها لا تكفي لحصول المرأة على حقوقها الأساسية، وإنما يجب فهم هذه الحقوق أولاً كضرورات حياة لا غنى عنها للجنسين وكأسس لاستقرار الفرد والأسرة والأطفال والمجتمع، إضافة إلى أهميتها التكافلية للإنتاج العلمي والفكري والمعيشي والأمني. في ختام جواب هذا السؤال أعيد القارئ الكريم إلى السطور الأخيرة من جوابي على السؤال السابق حول أهمية التوازن في فهم الحريات والحقوق.
ليس بقرارنا الإشارة لتأثير شبكات التواصل والمنصات الحديثة الرقمية تجاه التأثير في المتلقي وتقديم محتوى استهلاكي سريع يراه البعض وانعكاسات ما يحدث في العالم أجمع من تغير في لغة الخطاب الصحافي والتضاؤل الناحم في نقل الأخبار والأحداث وتقلص صفحات وغياب زوايا الرأي وقد تطرق كثير من مراكز الأبحاث وأقسام الإعلام في الجامعات وحتى الصحف الورقية لهذا التحول - الذي لم يصبح سرًا في العالم- غير أن ما دعاني لهذا الإشارة التي سأحولها لسؤال في نهاية هذا التساؤل لما كان مقالك الأخير بنبرة انهزام أكثر مما كنت أظن أنها «مصافحة أخيرة وتلويحة وداع لكاتب مقال ترك رسالته النفعية أو الإخبارية للمرسل إليه مقرًا ألا جدوى بعد هذا الغزو الفضائي هذا التخلي حدث من دون أن يقول: «نحن هنا» وهو الذي يتبوأ معراشه من الصفحة الأخيرة الأكثر تقديرًا وتأثيرًا كما تعلم؟
مقالي الأخير «الوداعي» لصحيفة الجزيرة لم يكن انسحاب مهزوم وإنما محاولة ابتعاد عمّا لاحظته من تكاثر الكتابات المحلية لأقلام لا أريد أن أكون محسوبًا عليها في نفس الصحيفة، علاوة على ما لاحظته من انصراف الناس نحو متابعة ما لا أعدّه تنويريًا ولا تثقيفيًا بقدر ما هو استهلاكي وقتي لا فائدة منه ولا يستحق المساحة المعطاة له في الوسائل الإعلامية.
الواقع أن انسحابي من الكتابة المحلية جاء بعد تكرر العتب علي من أصدقاء ومحبين ذوي قامات ثقافية عالية نصحني بعضهم بالتوجه في كتاباتي المستقبلية إلى مخاطبة القراء داخل السعودية وخارجها، أي مخاطبة القراء العرب على العموم الذين يجهلون أو يتجاهلون عمدًا المستوى المتصاعد عددًا والرفيع فكرًا من المثقفين السعوديين، بسبب ترسبات عنصرية استعلائية ضد الصحراء وقدرات أهلها. لهذا السبب قمت بجس النبض عند دار الحياة الصحفية فوجدت ترحيبًا فوريًا وصادقًا فاستأنفت الكتابة في صفحة الرأي في الحياة.
وأما بخصوص تأثير شبكات التواصل الرقمي فتلك أهوار ووديان هادرة فيها شيء من الماء والتربة الجيدة وفيها كثير من الجيف المنتنة والأخشاب والمخلفات السامة، ولكن لم يعد باستطاعة دولة ولا مجتمع ولا رب أسرة منعها ولا ضبطها، لأنها تحولت إلى إدمان وتسويق لما يصح وما لا يصح من الدس والبرمجة والاختراق في كل العالم.
ولأن كاتب الرأي ليس سلطة تشريعية يفرض تنفيذ ما يؤمن به من وجهة نظر شخصية وهو ما قد يفسره أكثر السؤال اللاحق لكن دعنا نقول هنا من حقه كذلك وهو المتبحر والمتوسع في بحور القراءة التخصصية أو حتى الشأن العام وكأي مثقف يضطلع على مشروع إصلاحي تقدمي معرفي أو حضاري فني وتنويري يتمناه للنهوض ببلاده ومجتمعه إلا أن الساحة الإعلامية والثقافية والمشهد السعودي في هذا الجانب شهد عديدًا من المماحكات والملاسنات أقطابها أبطال من كتاب رأي. إلى أي مدى ترى تصل بحبوحة كتّاب الرأي وما أبرز التطلعات والانعكاسات التي يضطلع هؤلاء الكتاب بها تجاه المشهد عمومًا وقبل ذلك نحو الجهات التشريعية والتنفيذية ليتحقق ما يمكن تسميته دور كاتب الرأي؟
نعم ليس لكاتب الرأي سلطة تشريعية ولا حتى استشارية، وعليه منذ البداية أن يقرر لمن يكتب. كتابة الرأي التنويرية تتوجه نحو الجمهور العريض بهدف إشراكهم بالمعلومات والمدارك والآراء، أما كتابة الرأي النقدية فأغلبها يتوجه نحو إحدى السلطات الثلاث أو جميعها بهدف لفت النظر إلى ما يعتقده الكاتب خطأ أو تقصيرًا آملاً أن يصل نقده إلى من يستطيع التصحيح. ثمة كتابة رأي أخرى هي ليست كتابة رأي حقيقية بقدر ما تكون إما ثناءً ممجوجًا للتكسب أو هجومًا استفزازيًا لتصفية حسابات، وهذا النوع مع الأسف يجد أكبر عدد من القراء في المجتمعات الانفعالية. بحبوحة كتاب الرأي في المجتمعات المحكومة بالرقابة المؤسساتية وبمحافظة المجتمع المصاب برهاب التغيير غير موجودة كحق لا عقاب عليه، لكن الكاتب الحصيف كالسائق الخبير بالطرق يعرف كيف يتسلل بين الأزقة والشوارع الضيقة لتفادي الطريق العام حتى يصل إلى الهدف.
يسعد كاتب الرأي حينما تؤخذ أطروحته لحيز التنفيذ فيشعر بحبور الانتصار تجاه قضية تسليمه تجاهها اليوم نفذ القرار. ما القرار الذي ترى أنك أحد الكتّاب الذين كانوا وراءه وعلى النقيض في الجهة المقابلة سفحت كثير من المحابر وأريقت الأوراق في طرق الرأي العام دون أن تكون دالة أو مؤثرة ما يوجد نوعًا من الخيبة أو الفشل إن جاز التعبير في هذا المشروع الذي لم تطاله لغة التحديث وتجديد المسارات بين لذة نشوة الانتصار للرأي ومرارة العلاج غير الناجع الذي لم يحدث الأثر كيف يكون شعور الكاتب مشتعلاً وإطفائيًا في الوقت نفسه بين الأضابير ليرفع لنا كاتبنا أهم أضابيره المنتشاة والأخرى المحترقة من دون أن يحدث عمود الدخان حريقًا في الشارع المحلي؟
إن كنت تنتظر الجواب عن تطلعاتي شخصيًا في هذا المجال أقول لك إنني أنسى المقال بمجرد إرساله للنشر، ولذلك لا أتذكر سوى مقالين سررت للتجاوب التنفيذي معهما وكان التجاوب مفاجأة سارة. أحد المقالين طالبت فيه بحذف كلمة «مكرمة» عند طرح أو استكمال أي مشروع حكومي يحتاجه الوطن، باعتبار ذلك حقًا للمواطن وواجبًا على الحكومة. المقال الآخر تكرر محتواه في عدة مقالات ومقابلات فضائية لي عن ضرورة الارتقاء بخدمات الطب الأولي (طب الأسرة) لردم الارتفاع المخيف في أمراض التغذية الحديثة والسمنة والكسل ومشكلات الأمومة والطفولة، وهي المشكلات الصحية التي تنتهي كلها بمضاعفات تحتاج إلى عناية طبية من المستوى الطبي الثالث (الطب المعقد المتخصص)، الذي تصرف عليه الدولة أضعاف ما تصرف على الطب الأولي. بعد مرور عقود بدأ التجاوب مع أفكار تلك المقالات والمقابلات، ولكن بشكل محدود حتى الآن. أما مقالاتي التي سببت المرارة فهي تلك التي كانت تشير إلى مظاهر التزمت الطقوسي في الأربعين سنة الماضية وتعرضت بسببها لمضايقات مزعجة، ليس من السلطات ولكن ممن عدوا أنفسهم محسوبين على الاحتساب الديني.
وجدت نفسي مضطرًا وبكل سرور للاجتزاء من مقال صديقك الدكتور حمود أبوطالب - يطلع عليه القارئ في هذا الملف متزامنًا مع هذا الحوار- ليكون سؤالاً وقد أكون محقًا وسيعذرني القراء حين لا أعاود صياغة خاتمة المقال بل شادًا على يد الدكتور أبو طالب «إننا ما زلنا بحاجة لك وأنك قادر على معاودة الصهيل الفاخر في مضمار المسرح الوطني والإنساني، بل إنك من القادرين. فهل ننتظر مقالاً مفاجئًا عنوانه: العودة إلى الزاوية؟
الدكتور حمود أبو طالب حفظه الله وزاده رفعة ومكانة كان أحد طلبتي في كلية الطب في جامعة الملك سعود، وهو إنسان محب ودمث الأخلاق، ولذلك تكون كلماته في أستاذه من باب الشهادة المطعونة. عودتي ككاتب منتظم أظنني خلفتها ورائي سنًا وقدرة ورغبة، لكنني احتفظ بالاستجابة من آن لآخر لفكرة ملحه لا بد أن أكتب فيها، وهذا ما بدأته بالفعل في صفحة الرأي لصحيفة الحياة. مقال عنوانه العودة إلى الزاوية غير وارد لأن الصحافة الورقية لم تعد الميدان ذي الشعبية للقراء وربما أنها في سنوات الوداع.
ربيع عربي مزعوم ألقى بخريف مروع امتد به الخوف والذعر نتيجة إزهاق الأرواح وتفشي الفقر وضياع المشروعات الأمنية والاقتصادية والحضارية التي يأملها المواطن العربي بعد سقوط الأقنعة وانكشاف بعض من القوى العالمية والإقليمية سواء حتى نصل للأحزاب والتنظيمات والأبواق التي تصف معها التي كانت تسعى للاستفادة من مقدرات البلاد العربية وثروات شعوبها أثبت خلال هذه الفترة أن المواطن السعودي تحديدًا والخليجي مدى الوعي في تعاطيه وتعامله مع كل ما يحدث ويدور حوله ومع كل ما يحاك ضد أمن ومسيرة بلادنا الحضارية والثقافية كان لكم ولآخرين كثر من الكتّاب إضاءات وتحذيرات ولفتات وطنية بعضها وجهتموه صوب الوطن وقياداته العليا والآخر قدمتوه للمواطن البسيط ولأن الأزمات لم تنته ولأن ما تغير ربما طريقة تعامل وتنفيذ خطط تلك الجهات المشبوهة وما يقف وراءها من تنظيمات وأحزاب ودول بودنا في هذا الجانب تحديدًا أن يشرعن ضيفنا رسالته الأخيرة أو عدة رسائل في المساحة المتبقية من هذا الحوار؟
أدركت (ولا فخر) من البداية أن احتجاجات الربيع العربي ليس خلفها شخصيات وطنية قيادية وصاحبة وزن ومصداقية، وإنما كانت أحداث فوضوية خطط لها لإحداث الفوضى، وقد فعلت ودمرت ونشرت الإرهاب بأوسع مما كان عليه انتشاره قبلها، في مصر وتونس وليبيا واليمن وغيرها.
من حيث المبدأ فكرة الربيع العربي كمحاولات شعبية للضغط على أنظمة الحكم لنقل المجتمعات العربية من حالات الفقر والتخلف والتبعية إلى ما هو أفضل هي فكرة مغرية بالتأييد، ولكن منشأ ومسار ونهايات الفكرة أثبتت أنها مشبوهة وموجهة من الخارج غير العربي وبالذات من أمريكا وإسرائيل وألمانيا وفرنسا، وركبت الموجة إيران وبعض الفصائل الفوضوية المسترزقة بالخلافات. لا تزال الدول العربية التي تعرضت لخضات الربيع العربي في مراحل لملمة الجراح، وبعضها ما زال في حالة انهيار كامل (سوريا واليمن والعراق وليبيا) بسبب طغيان حكامها وعمالتهم المذهبية للخارج على حساب شعوبهم وأوطانهم.
(ما ترك الأولون للآخرين شيئًا) ويرى بعض النقاد صحة وما ترك الآخرين للأولين شيئًا ويرى أليوت: إنه لم يؤثر في الآداب القديمة شيء قدر ما أثرت الآداب الحديثة، ولأن الحكم على الشيء فرع من تصوره فلو قدر لهذا العيش من جديد هناك والعكس ما أول الخطوات والقرارات التي ستتخذها وإن جاز التعبير هل سيكرر الحربش نفسه أم ستتغير خريطة تعاطيه تجاه الواقع والأشخاص القريبين منهم سواء والبعيد أم سيظل نفسه الحربش الدكتور والكاتب الذي رفض مواكبك التجديد وأعلنها صراحة في أحد اللقاءات الفضائية أنه ضد (تويتر والفيس..) ولن يكون ذلك الروائي أو الشاعر أو حتى الفنان المشهور ولا لاعب ذلك النادي الشهير؟
هل صحيح أن الأولين لم يتركوا للآخرين شيئًا: هذه المقولة تشبه مقولة القناعة كنز لا يفنى، بما تحمله من جهل بإمكانات العقل البشري. ما أحدثه العقل البشري خلال المائة سنة الأخيرة من الإنجازات والمعارف والأفكار أكثر بآلاف المرات مما أحدثه خلال كل العصور البشرية السابقة، وما أبدعه هذا العقل خلال السنوات العشر الأخيرة في العلوم والتقنية والطب والتواصل البشري أكثر بأضعاف المرات مما أبدعه في المائة سنة الأخيرة.
نقطة الضعف في التطور المتسارع هي أن العقل القديم أوجد المقلاع والفأس والرمح والسيف والمنجنيق للقتل، بينما أبدع العقل الحديث وسائل تدمير تكفي لنسف الأرض آلاف المرات ومسحها من الوجود. إلى أين يأخذ التطور العلمي سكان الأرض، الله أعلم ولطيف بعباده.
في الختام تقبلوا مني جزيل الشكر والامتنان للاستضافة في الجزيرة الثقافية الزاهرة.