أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: كل العقول مجبورة بمبادئ فطرتها الخلقية (بفتح الخاء) على أن الزمان المطلق (وهو السرمد غير المقيد بحدث محدود): لا يتصور له العقل بداية ولا نهاية.. وحديث: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر): له معنى صحيح ذكره شرّاح الحديث، وهو أنّ الله المدبِّر للأحداث التي يكون الزمان ظرفاً لها.. وههنا معنى صحيح آخر غفلوا عنه؛ وهو أنّ الله الأول لا شيء قبله، والظاهر لا شيء بعده؛ فلم يسبق وجوده جلَّ جلاله عدم، ولا ينتهي وجوده إلى عدم؛ بل هو الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء كما قال الطحاوي وغيره من الأئمة؛ فالزمان الذي لا أول له غير سابق وجود الرب سبحانه بعدم لا أول له، بل وجوده سبحانه لا أول له؛ فتصوّر العقل الحتمي لزمان سرمدي لا أول له: يمنع من إحالة خالق مالك لا أول له ولا انتهاء.. ويمنع كذلك من طلب أولية للخالق سبحانه؛ لأنّه مقتنع بأنّه لا أولية للزمان؛ إذن من معاني: (فإنّ الله هو الدهر): أنّه لا ابتداء للزمان الذي جعله الرب سبحانه مواقيت للأحداث ابتداءً وانتهاء؛ لأنّ الرب لا ابتداء له، ولم يسبقه عدم محض دون زمان سرمدي؛ بل هو في انتفاء أوليته مقيّد بوجود الرب الذي لا أول له، ومحدد ومجزّأ بتدبير الرب الذي لا أول له؛ فالعدم المحض مسبوق بوجود الله الأول الذي لا ابتداء له، فلم يبق إلا الزمن الموجود المحكم بتحديد وتجزئة الخالق له بالأحداث التي دبرها.. وما دام الرب سبحانه وتعالى هو الأول وجوداً وكمالاً وتدبيراً بلا ابتداء: فمعنى ذلك أنّه لا ابتداء لزمان وجوده وتدبيره؛ بل هو زمان بلا ابتداء ولا انتهاء؛ فكان التعبير على المجاز بأنّ الله هو الدهر؛ لأنّ زمان وجوده وتدبيره لا أول له ولا انتهاء؛ فوجوده ودوامه بصفات الكمال سرمدي بلا ابتداء ولا انتهاء، ولا يسبقه عدم، ولا حدوث عدم؛ فهذه صفة الوجود والدوام زمنياً؛ إذ الزمان بلا ابتداء ولا انتهاء، فجاء النص الشرعي بأنّ الله هو الدهر لا لأنّ ذلك صفته سبحانه وتعالى، وإنّما صفة ما أوجده سبحانه وتعالى بعلمه وقضائه.
وفي سفسطات الزمان الكثيرة مقولتان: الأولى لأرسطو الذي جعل الزمان وجودياً، فيبدأ الزمان من قياس موجود ما متحرّك.
قال أبو عبد الرحمن: الزمان متصوّر في العدم، وصفته أنّه سرمدي لا يقبل تحديداً ولا تجزئة؛ وهذا هو المطلق، ولكن صحّ بالبرهان العلمي أنّه لا عدم محضاً، بل العدم منتف بوجود رب الكائنات سبحانه وتعالى، ثم أصبح الزمان الوجودي القابل للتجزئة والتحديد: توقيتاً لمعدومات من المخلوقات ثم وجدت.. والمقولة الثانية: مقالة من زعم وهمية الزمان.. على أنّ الفيلسوف الألماني (أمانوئيل كانط) تلطّف قليلاً فلم يطلق الوهم، بل جعله شرطاً تصورياً حرياً للعقل الخالص.
قال أبو عبد الرحمن: بل هو تصور ضروري؛ لأنّ الوجود بغير زمان محال في فطرة العقل وشاهد الحس.. وأما الوهم فإساءة تعبير عن غير المحسوس، بل هو علاقة مع الوجود الحاضر والعدم الغائب بتعاقب سائل غير قار ولا متناه يصدر عنه مقالات معقولة أخرى كالقبل والبعد، والطول والقصر.. وأما الأول والآخر فإنما هو لمظروفات الزمان، وليست للزمان الذي هو ظرف كقولنا على سبيل المثال: لدولة بني العباس أول وآخر، والعقل لا يقدر على تصور ظهور الوجود المنظّم من عدم محض، بل من موجود مدبر؛ لأنّ العدم لا يخلق شيئاً فإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.