د.محمد بن عبدالرحمن البشر
يختلف الناس في أخلاقهم، وسُبل إبلاغ ما يودون البوح به، ويستعيرون من الجمل والألفاظ ما يناسب ما تحمله النفس من رقي أخلاقي فطري، وما أضافته البيئة من تربية، ومناخ نشأ فيه المرء، وما اكتسبه المرء من علوم وفصاحة، يجعلها أداة للتعبير عما يود إفشاءه.
من ذلك ما نقله المقري في نفح الطيب عن القاضي أبي البركات الذي أراد أن يطلق زوجته طلقة واحدة بعد أن شق عليهما المسير في زواجهما مؤهلاً أن تكون تلك الطلقة وسيلة لعودتها إلى عِشرة أفضل؛ فلا بد أن ذلك التباعد سيجعلهما أكثر قدرة على التفكر، والعودة إلى العيش معًا، والتنازل عن بعض الإصرار على أمور، قد يكون التخلي عنها سهلا، ومسهلاً لحياة أكثر توافقًا وإشراقًا، فكتب ما نصه:
«بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على محمد، وعلى آل محمد. يقول عبدالله الراجي رحمة ربه المدعو بأبي البركات بن الحاج، غفر الله له، ولطف به: إن الله جلت قدرته لما أنشأ خلقه من طبائع مختلفة، وغرائز شتى، ففيهم السخي والبخيل، والشجاع والجبان، والغبي والفطن، والكيس والعاجز، والمسامح والمناقش، والمتكبر والمتواضع، إلى غير ذلك من الصفات المعروفة من الخلق، وكانت العِشرة لا تستمر بينهم إلا بأحد أمرين: إما بالاشتراك في الصفات أو في بعضها، وإما أن يصبر أحدهما على صاحبه إذا عدم الاشتراك.. ولما علم الشارع أن بني آدم على هذا الوضع شرع لهم الطلاق؛ ليستريح إليه من عيل صبره على صاحبه، وتوسعة عليهم، وإحسانًا منه إليه. فلأجل العمل على هذا طلق كاتب هذا عبدالله محمد المذكور زوجته الحرة العربية المصونة عائشة، ابنه الشيخ الوزير الحسيب النزيه الأصيل الصالح الفاضل الطاهر المرحوم أبي عبدالله محمد المغيلي طلقة واحدة، ملكت بها أمر نفسها دونه عارفًا قدره، قصد بذلك إراحتها من عشرته طالبًا من الله أن يغني كلاً من سعته، شاهدًا بذلك على نفسه في صحته، وجواز أمره، يوم الثلاثاء، أول يوم من شهد ربيع الآخر عام أحد وخمسين وسبعمائة».
هذه صيغة طلاق العالم والقاضي الجليل أبي البركات لزوجته. وهذه الصيغة تنم عن المستوى الثقافي والخلقي الذي وصلت إليه النخبة المثقفة والمتعلمة في ذلك العصر الأندلسي الزاهر، الذي أفل نجمه، ليس بسبب هؤلاء، ولكن لعوامل مختلفة، ومطامح محيطة، أودت بذلك الفردوس الأندلسي إلى الاختفاء بعد ثمانمائة قرن من الازدهار، والمشاركة العلمية والثقافية في الحياة الإنسانية، ولاسيما أن قرب الأندلس من أوروبا في عصور الظلام قد شارك في إضاءة الطريق، ومن ثم البيئة كلها بالتقدم الفلسفي والتقني الذي امتد أثره حتى عصرنا هذا.
هكذا فإن زراعة بذره صالحة لا بد لها أن تثمر بثمار ذات طعم طيب، ورائحة زكية نفاذة، حتى وإن فسد قليل من الثمر فإن الغالب هو النتاج الطيب المفيد.
ومن نوادر القاضي أبي البركات أنه قد استنابه على القضاء قاضي المريه الفقيه أبو جعفر المعروفة (بالقرعة). وعندما جلس أبو البركات في مجلس القضاء جاء إليه بستاني، يشتكي سوء الحال، وقلة الإنتاج بسبب جانحة أصابت بستانه؛ ففسد كثير من ثمره، وبيده قرعة قد أصابها بعض العطب؛ ليجعلها شاهدًا على ما أصاب بستانه.. فنظر القاضي أبو البركات إلى القرعة والمشتكي، وتذكر لقب القاضي أبي جعفر الملقب بالقرعة، فقال: سبحان الله.. قرعة تقضي وقرعة تشهد. وهذا يدل على سرعة بديهته، كما تنبني عن جِبلة المرح الذي جُبل عليها، مع وقاره، وعلمه الغزير، وشِعره المميز.
وذُكر أنه قد رأى في منامه ليلة السابع عشر من رجب عام خمسة وأربعين وسبعمائة للهجرة أنه يريد إتيان امرأة لا تحل له، فيأتي رقيب يحول بينه وبينهما المرة تلو المرة، وعندما استيقظ من نومه نظم أبياتًا، قال فيها:
ألا كرم الله الرقيب فإنه
كفاني أمورًا لا يحل ارتكابها
وبالغ في سد الذريعة فاعتدى
يلاحظني دومًا ليغلق بابها
وهذه من قصص كثيرة، تحكي سرعة بديهته، وطرافة قوله.. ومعروف عنه أنه كان قاضيًا عادلاً، متسامحًا في الأمور اليسيرة، متشددًا في الحدود وظلم الآخرين، ولاسيما الفقراء والمساكين.
الحقيقة، إن الأندلس عبر محطاتها المختلفة، سواء في عصر الخلافة الأموية، أو أثناء حكم ابن أبي عامر وأبنائه من بعده، أي عصر الطوائف، أو المرابطين، أو الموحدين، انتهاء بحكم بني نصر لغرناطة، كانت حافلة بعدد كثير جدًّا من العلماء والمفكرين، والفلاسفة، والمتخصصين في الطب، وعلوم الفلك، والجغرافيا.. ويكفي أن نشير إلى ابن خلدون وابن الخطيب. وقد وضع ابن خلدون علم الاجتماع الذي ما زال خالدًا حتى يومنا هذا.