أ.د.عثمان بن صالح العامر
النفس الإنسانية تعتريها العلل والأمراض الخفيّة والخطيرة التي قد تفوق في حدتها وقسوتها أمراض الجسد، بل ربما كان المرض النفسي السبب الرئيس لعلل الأبدان، وهذه الأدواء النفسية في الغالب غير منظورة، ولا يحس بها مَن هم حول المعتل، فهي ساكنة في داخل من يكابدها وتؤلمه وربما قتلته متى ما استفحلت به وتقدَّم بها الزمن، ولا أحد يدري السبب الخفي الذي به مات هذا الإنسان الذي يعيش اضطرابات نفسية أو عدم توافق عاطفي وجداني أو اكتئاباً حاداً أو غير ذلك كثير.
الاتحاد العالمي للصحة النفسية استشعر خطورة هذه الأمراض فبادر عام 1992م إلى جعل العاشر من شهر أكتوبر يوماً عالمياً للصحة النفسية ليذكِّر فيه بأهمية رعاية الإنسان نفسه وتحقيق صحتها بالوقاية أولاً، وإن مرضت فبالعلاج.
مجتمعنا العربي ما زال -للأسف الشديد- يتعايب الذهاب إلى العيادات المتخصصة بهذا الجانب من تكويننا الثنائي الذي خلقنا الله عليه - كما هو معلوم -، وهذا سيؤدي طبعاً إلى تزايد أعداد المرضى النفسيين خاصة في هذا الوقت بالذات.
شخصياً أرى أننا في هذه الحقبة التاريخية بحاجة ماسة إلى الاهتمام والالتفات لهذا النوع من الطب الذي هو جزء لا يتجزأ من الصحة العامة، إذ لا تكتمل صحة الإنسان دون تحقق الصحة النفسية، ولذا كان من الضروري تغيير النظرة المجتمعية إزاءه لأسباب عدة لعل من أهمها:
- ضعف التكوين الروحي لدى البعض منا الذي هو الوقود الحقيقي لتقوية الجانب النفسي لدى الإنسان.
- التسارع العالمي الذي قد يصيب شريحة عريضة من أبناء المجتمع بالذهول وعدم القدرة على استيعاب المتغيِّرات، مما يشعر معه بالغربة النفسية التي يتولّد عنها أمراض عدة جراء العزلة عن الزمن.
- المجتمع السعودي مجتمع شاب والأمراض النفسية -كما يذكر أهل الاختصاص- تهاجم غالباً مَن هم في سن 14 إلى 29.
- الحروب والكوارث من حولنا، وقلقنا على المستقبل سبب رئيس يزيد من نسبة الإصابة بالأمراض النفسية وتفاقمها في المجتمع كما هو معلوم.
- السوشل ميديا والانفتاح غير المسبوق على العالم جعل البعض يعيش موزعاً بين العالم الافتراضي والواقع الحقيقي فلا هو بقي في عالمه الذي يقطنه ولا عاش في عالمه الجديد الذي يمضي فيه ساعات طويلة في يومه فصار بين الفينة والأخرى يُريِ نفسه الافتراض حقيقة وكذا العكس، وهذا جعله يعيش عزلة المكان.
- سرعة انتقال العدو سلباً أو إيجاباً في عالم اليوم، خلاف ما كان عليه الحال من قبل، فما يحدث في أي جزء بالكون سرعان ما يسري في جسد هذا العالم المتشابك، ونحن لسنا بمعزل عن هذا الكيان الدولي الذي صار أكثر تقارباً والتصاقاً، وعلى ذمة - وزارة الصحة عبر موقعها الرسمي على الإنترنت - فإن شخصاً واحداً من أصل كل أربعة أشخاص حول العالم، يعانون شكلاً ما من أشكال الاضطرابات الصحية النفسية، ونحو 800 ألف شخص ينتحرون سنويًا.
- تزايد حالات الطلاق في المجتمع، وارتفاع نسبة البطالة والعطالة، وكثرة المشاكل الاجتماعية التي تعترض الشاب والفتاة، وتعقّد الحياة وصعوبتها في وجه جيل اليوم، وهذا بالطبع يولِّد إمراضاً نفسية متنوِّعة ومتعدِّدة كما هو معلوم.
ولذا فإن على الجامعات والمعاهد والمدارس فضلاً عن الأسرة والمجتمع والوزارة المعنية أن تلتفت إلى الرعاية النفسية من خلال التربية الواقعية وكذا إيجاد عيادات متخصصة تنبري للتوعية والرعاية الوقائية ومن ثم العلاج حتى لا يصل الشاب أو الفتاة إلى الهروب عن واقعه الذي هو فيه إما بتعاطي المخدرات، أو الهروب خارج دياره ظناً منه أن هذا هو الطريق للوصول إلى الحرية المزعومة التي ستخرجه من مرحلة الضنك التي يعيشها، أو في اعتناق الإلحاد الذي سيصل به إلى الانعتاق من رق العبودية والعياذ بالله، وربما كان منه الانتحار -لا سمح الله- ولذا كان شعار اليوم العالمي للصحة النفسية هذا العام (تعزيز الصحة النفسية، والوقاية من الانتحار)، دمتم بخير، وإلى لقاء، والسلام.