اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
في مثل هذه الأيام من كل عام، يعم الفرح بلادنا الطيبة المباركة في جميع أرجائها.. في مناطقها، محافظاتها، مراكزها، مدنها، قراها وهجرها؛ ويكون اللون الأخضر الخفَّاق، لون الراية السعودية العزيزة الغالية، التي تُعَدُّ أعظم راية في الوجود لأنها تحمل كلمة التوحيد التي تمثل أساس رسالة هذه الدولة الفتية المباركة.. دولة الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، وتعظيمه وتمجيده، والثناء عليه، وإعلاء كلمته، وإفراده عزَّ وجلَّ بالعبادة.. احتفاءً بيومنا الوطني المجيد، الذي يمثل اعتزازاً بتاريخنا، وترسيخاً لمكانة هذا الوطن بين الأمم، وتطلع لغدٍ مشرقٍ بالنماء والرخاء، كما أكد ملكنا المفدى سيدي الوالد المكرم، خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله ورعاه- في تغريدته بمناسبة هذا اليوم الخالد.
أجل.. دولة الدعوة إلى تآلف القلوب، وتوحيد الصفوف، ونبذ كل مظاهر الفرقة والشَّتات من قبلية وعنصرية وجهوية ومذهبية.. دولة الدعوة إلى العمل والإنجاز والإبداع ونفع الناس أجمعين، وخدمة العرب والمسلمين في كل المحافل والميادين.. دولة الدعوة إلى الخير والمحبة والسلام والوئام، وترسيخ الأمن والأمان.
ولهذا كان المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، والد الجميع -طيَّب الله ثراه- لا يفتأ يكرر ويعيد في كل مناسبة تقريباً: (نحن آل سعود، لسنا سعاة سلطة، بل أصحاب رسالة). ولهذا أيضاً كثيراً ما يؤكد سيدي الوالد المكرم سلمان، قائد سفينتنا اليوم: (إن أعظم إنجاز حقَّقه عبد العزيز، هو وحدة القلوب قبل وحدة الجغرافيا). فأصبحنا كلنا اليوم في هذا الوطن العزيز الشامخ من أدناه إلى أقصاه، إخواناً متحابين، بل جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. ويقول الشاعر محمد بن عثيمين في هذا مخاطباً الملك عبد العزيز:
تلألأت بك للإسلام أنوار
كما جرت بك للإسعاد أقدار
***
تألفت بك أهواءٌ مفرَّقةٌ
تأجَّجت بينهم من قبلك النار
فأصبحوا بعد توفيق الإله لهم
بعد الشقا والجفا في الدين أخيار
وحقَّاً، ليس هذا ادعاءً أو تمنياً أو ضرباً من الخيال، بل هو حقيقة راسخة، أكدها كل من تشرَّف بالبحث في تاريخنا المجيد والكتابة عنه، من الأعداء قبل الأصدقاء، إذ يؤكد الجميع أن اللحمة التي تجمع الشعب السعودي كله بقيادته، لا مثيل لها في العالم. فالبيوت مفتوحة، والمكاتب مفتوحة، والمجالس مفتوحة، والآذان مفتوحة أيضاً لأي سعودي يطرق باب القيادة ناصحاً أو متظلماً أو ناشداً رأياً أو مساعدة.
ومرة أخرى هذا ليس من نبات أفكاري أو نسج خيالي، بل حقيقة راسخة كثيراً ما يؤكدها سيدي الوالد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، قائد الركب في هذا الزمن الصعب، الذي تلاطمت أمواجه، وتعقَّدت حياته، وتداخلت أموره لدرجة أصبح من الصعب على الناس التفريق فيه بين الحق والباطل، إلا في بلاد الحرمين التي قامت على أسس ثابتة راسخة صالحة لكل زمان ومكان، فدستورها كتاب الله سبحانه وتعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أجل أيها القارئ الكريم، حكاية وطن الأمن والأمان هذا، من عبد العزيز إلى سلمان، حكاية مشوقة، تطرب الآذان وتقشعر لها الأبدان لما شهدته من تضحيات جسام، وأعمال عظيمة، ومواقف قادة مدهشة، لا يقدر عليها إلا عظماء الرجال، الأبطال الأفذاذ، الذين لا هم لهم في هذه الحياة غير تطبيق مبدأ الخلافة في الأرض كما ينبغي، وخدمة الناس وتوجيههم إلى الخير دائماً.
فمنذ أن أبصرت عينا المؤسس النور عام 1876، إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى ضحى الاثنين في التاسع من نوفمبر عام 1953م، لم يهدأ له بال، أو يرتاح له جسد، أو يهنأ بملذات الحياة، حتى في أيام الطفولة والمراهقة والشباب، إذ كان قدره أنه وُلد في مرحلة تعرضت فيها أسرته صاحبة الدعوة والرسالة السامية الخالدة إلى محن جسام.
وبقدر ما كان هذا تحدياً حقيقياً له، وامتحاناً عسيراً، كان أيضاً خير معين استقى منه التاريخ، وأعاد قراءة التجربة مرات عديدة.. قراءة الطبيب المداوي الذي يُعْنَى بتشخيص حالة مريضه ليصف له الدواء الناجع -بإذن الله. وهكذا، حدد المؤسس مواضع الفشل والإخفاق في التجربة، واستلهم عوامل النجاح؛ فعالج الأولى وأثرى تجربة الثانية حتى كانت ملحمة عيد الرياض الخالدة، ثم ما ترتب عليها بعد ذلك من أحداث وتداعيات أثمرت لنا هذا الوطن العزيز الشامخ الذي ليس مثله في الدنيا وطن، وقد صور بولس سلامة تلك الملحمة البطولية الخالدة، ورحلة جهاد المؤسس الطويلة الشاقة في تسلسل زمني فريد كما لم يصورها أحد قبله أو بعده، إذ يقول في مطلقها:
في جوار (الرياض) حلَّ أميرٌ
ورفاق توشَّحوا الظلماء
ظلَّ عشرون منهم في الضواحي
حَرَسَاً، أو نواظراً رقباء
قال عبد العزيز: إن لم أجئكم
في غدٍ فاعلموا: لقيت القضاء
وعزاءٌ للمجد مصرع نسرٍ
مات قتلاً، ولم يمت إعياء
ومشى الأربعون للسور، مشى
العاشق اللابس الخفاء رداء
يتوقى العيون والنسم الواشي
فمن دربه يزيح الهواء
لا سعالٌ، ولو تكسَّر في الصدر
وهدَّ الشغاف والأحناء
لا عطاسٌ، ولو تمزقت الأوداج
أو شَبَّت العيونُ الصِلاء
إلى أن يقول:
لم تكن غير ساعةٍ وفتحتم
معقلاً كان يحضن الكبرياء
***
قيل بعداً للظالمين ونُودي
والمَلاوات أرهفت إصغاء
حين نُودي: الله أكبر
إن الله ولىَّ (رياضه) الأمراء
عاد عرش الأجداد لابن سعودٍ
فهناءً أهل الرياض هناء
فأجابوا: آمين، والنخل حيَّاه
ودلىَّ الذوائب الخضراء
وهي ملحمة عبقرية استثنائية فريدة كما وصفها كل من قرأها وكتب عنها من أدباء عصر بولس سلامة، بل ذهب بعضهم -وهو محق قطعاً- إلى القول إنه يحق لبولس سلامة أن يردد في ثقة من الخلود الظاهر لملحمته (عيد الرياض) بلسان المتنبئ:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشداً
أجل، أعود إلى عبقرية التجربة السعودية التي لا أبالغ إن قلت إنها تتجاوز حدود المألوف في وطن الأمن والأمان، من عبد العزيز الذي وحَّد القلوب، وأرسى الدعائم وشيد البنيان بالإيمان والمحبة والعزيمة الصادقة، وأضفى على وطننا هذا معاني سامية في التفرد، منحته القوة لينطلق حتى يصل اليوم إلى هذا العهد الزاهد بقيادة ملك الخير والعزم والحزم والحسم سلمان.
وبالطبع، بين ملحمة التأسيس وقيادة الركب اليوم ملاحم عديدة من العمل والإنجاز والإبداع كما أسلفت. فبعد توحيد أرجاء الوطن وصهر القلوب في بوتقة واحدة، التفت عبد العزيز إلى ترسيخ البنيان. ولأنه صاحب رسالة وراعي خير اتصف بكل صفات القائد العبقري، كان ديدنه العدل والمساواة وتحكيم شرع الله في كل كبيرة وصغيرة، لا فرق في ذلك بين ملك وأمير أو غفير ووزير. وقد رويت في هذا حكايات أقرب إلى الأسطورة من الحقيقة، فكان نعم القائد القدوة في كل شيء، من العدل إلى الرحمة والرأفة والحكمة، وسعة الصدر والشجاعة، والمروءة والنخوة والشهامة والحرص على مصلحة العرب والمسلمين.
وعلى النهج نفسه سار أبناؤه الكرام البررة، الذين لم يفرطوا في الأمانة، من سعود إلى الفيصل، فخالد والفهد وعبد الله، ثم سلمان الذي يذكرنا اليوم بعبد العزيز في خلقه وأخلاقه وإداراته لشؤون الدولة الداخلية وعلاقاتها الخارجية.
فعهود القادة السعوديين إذاً هي امتداد للدولة السعودية التي أسسها عبد العزيز، كما أكد أخي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع -حفظه الله- عرَّاب رؤيتنا الذكية الطموحة (2030)، التي أضفت لبنات جديدة في مسيرة الخير القاصدة، إذ كان كل خلف يضع مزيداً من اللبنات على ما حقَّقه السلف، لأن المنهج واحد، والغاية واحدة، والطريقة واحدة: دولة صاحبة دعوة ورسالة سامية عظيمة، تمثَّلت اليوم في هذا الإنجاز المدهش في الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة ورعاية ضيوف الرحمن. وهو في الحقيقة واجب مهم، بل أعظم واجبات دولة الدعوة التي لا تعنى بشيء مثل عنايتها بخدمة الإسلام والمسلمين، كما يؤكد هذا قائدنا سلمان دوماً، إذ يقول: (مكة المكرمة والمدينة المنورة تهمنا أكثر من أي مكان آخر في الدنيا). وهو قول يصدقه العمل كعادة آل سعود والسعوديين دائماً.
أما عن إنجازات دولتنا في المجالات المختلفة من سياسية واقتصادية وعسكرية، واجتماعية وغيرها، فالحديث عنها يطول. ولهذا اكتفي هنا بإشارة سريعة لما تمثله بلادنا اليوم من ثقل سياسي واقتصادي وعسكري مهم في المنطقة والعالم، جعل الأنظار تلتفت إليها، ناشدة الرأي السديد والدعم السخي واليد القوية التي تنصر الأخ مظلوماً أو ظالماً، حين تأخذ على يده فتردعه عن ظلم الآخرين، تماماً كما تشرئب أعناق الحجاج والمعتمرين إليها من كل فج عميق.
وقد ظهر هذا في نصرة الكويت، ودعم الأشقاء في سوريا والعراق ولبنان، ويظهر اليوم بشكل أوضح في جهودنا لنصرة الشريعة في اليمن، إذ تضطلع بلادنا بالعبء الأكبر في تأديب المارقين وإعادة الأمور إلى نصابها مهما كلف ذلك من عدَّة وعتاد.
ومثلما كانت السعودية في عهد عبد العزيز قبلة العرب والمسلمين، ومثلما هي كذلك اليوم، ستظل -إن شاء الله- هكذا إلى الأبد، نسير فيها كلنا على نهج المؤسس.. لا تحيد عنه أبداً.. تبني في الداخل وتردع المعتدين الذين يبطنون الشر للعرب والمسلمين؛ فيما يظل الحاقدون الحاسدون العملاء والمرتزقة المارقون، يمارسون دناءاتهم وتآمرهم لتعطيل دور السعودية في خدمة الأمة لصالح الأعداء، لكن هيهات.. هيهات.
فنحن نصبح مع بزوغ كل فجر جديد أقوى منّا أمس بعون الله وتوفيقه، ثم بعزم الأبطال وهمَّة الرجال.. لا نرضى الوعيد ولا يخيفنا التهديد، كما أكد الراحل الكبير الأمير سعود الفيصل -رحمه الله- رئيس الدبلوماسية السعودية، عميد الدبلوماسيين العرب، السياسي المخضرم، الذكي اللامع.
فالحمد لله رب العالمين الذي تفضل علينا بوطن طاهر، عزيزٍ غالٍ، ليس مثله في الدنيا وطن، وهيأ لنا قيادة رشيدة حكيمة مخلصة ذكية، تبذل دوماً الغالي والنفيس من أجل خيرنا وعزتنا وحماية مقدساتنا واستقلال بلادنا.. وكل عام الجميع بخير وصحة في وطن الأمن والأمان والسلام.