د.محمد عبدالله السحيم
الاعتدال هو سنة المرسلين عليهم الصلاة والسلام، وهو عنوان الحياة الكريمة التي لا شطط فيها ولا حيف، والاعتدال ما كان في أمة أو مجتمع إلا ساد فيهم الخير، وانتشر فيهم الأمن، وعمّهم السلام، وتنزلت عليهم البركات، ولا نزع من أمة أو مجتمع إلا وحلت فيهم الفرقة والتنازع، واضطرب الأمن، وضُربوا بلباس الجوع والخوف.
ولأن العدل فضيلة فكل يدعيه، وكل يزعم أن موقفه هو العدل الموافق للدين والفطرة والمتماشي مع العقل، ولو نظرنا إلى موقف اليهود والنصارى من الأنبياء لوجدنا فيهما شططاً وانحرافاً عن الاعتدال، ومع ذلك فكل منهما يدعي أن موقفه هو العدل، فاليهود جفوا في حق الأنبياء وقتلوهم، والنصارى غلوا في المسيح وجعلوه إلها. وكلا الفريق مخالف للتوسط والاعتدال، ولذلك كذّب الله الفريقين، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (113) سورة البقرة.
والغلو مذموم كله، ويكون في الاعتقادات والعبادات والمعاملات والأحوال، وما من أمر من أمور الدين إلا والناس فيه طرفان، ووسط، طرفان مذمومان، ووسط محمود، والطرفان: الغالي والجافي، والمحمود هو العدل، والعدل فضيلة بين رذيلتين، وتوسط بين طرفين.
والغلو منه غلو متعد وغلو قاصر، فالمتعدي كالغلو في حق المخلوق ليكون شريكاً لله رب العالمين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني، كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبدالله، ورسوله) صحيح البخاري (4/ 167)، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} (77) سورة المائدة.
ومن الغلو المتعدي الاستطالة في دماء المخالفين وأعراضهم وأموالهم؛ بدافع الغلو ظناً من الغالي أنه على حق، وأن مخالفه على باطل، وأن باطله يبيح له الوقوع في دمه وعرضه وماله، ومن الغلو القاصر التضييق على النفس بتحريم الطيبات أو الامتناع عن المباحات كما في خبر الثلاثة الذين ورد خبرهم في صحيح البخاري ومسلم وأحمد، فعن أنس -رضي الله عنه- يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) صحيح البخاري (7/ 2).
وحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الغلو فقال -صلى الله عليه وسلم-: (إياكم والغلو؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين «مسند أحمد ط الرسالة (5/ 298)، وقال أيضاً -صلى الله عليه وسلم-: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً. صحيح مسلم (4/ 2055).
ولأن الاعتدال فضيلة فكل يدعيه، فكيف يميز الإنسان بين مواقف المختلفين حول مسألة ما؟ ومن هو المتوسط المعتدل؟ ومن هو الغالي أو الجافي؟ فأقول إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيّن أن الأمة ستختلف، وأن كل فريق سيزعم أنه المحق وأن قوله الحق، فبيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- المعيار الذي يعرف بن المسلم الموقف الوسط بين المتطرفين، والاعتدال بين المنحرفين، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني: الأهواء-، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة) مسند أحمد ط الرسالة (38/ 135)، وفي رواية: «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» فجعل النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- المعيار هو الجماعة، فما اجتمعت عليه الجماعة المعتبرة الموافقة للحق فهو الحق، وفي الرواية الأخرى، جعل صلى الله عليه وسلم المعيار: أن يكون مثل ما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-، فعند الاختلاف ينظر المرء إلى حال المختلفين فمن كان منهم على مثل ما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضوان الله عليهم- فيتبعه، وبهذا يعرف المرء الحق عند الاختلاف، والاعتدال عند الانحراف، ويسلك الوسط عند الجنف والشطط.
والاعتدال والتوسط ليس من نافلة القول أو من الترف الفكري، بل هو سمة نبوية وضرورة دينية ومصلحة اجتماعية، وإذا تنكبت الأمة الاعتدال والتوسط، ورضيت الغلو مسلكاً وسبيلاً فقد جلبت على نفسها فساد الأديان، وخراب الأوطان، وتبدل الأحوال، وتفرق الجماعة، وشتات الأمر، وتسلط العدو.