محمد آل الشيخ
يتفق المسلمون بجميع توجهاتهم ومذاهبهم أن (العقل مناط التكليف)، لكنهم عندما ينتقلون من التنظير إلى التطبيق يقدمون النقل والرواية حتى وإن كانت ظنية على المعقول، فينسفون عمليًّا ما اتفقوا عليه مبدئيًّا؛ ليثور السؤال (لماذا؟)
في تقديري إن السبب يعود إلى التوجس من العقل والعقلانية، وهذا التوجس كان له أسباب وبواعث كثيرة؛ فالنقل وقبول المنقول لا يزعج الإنسان بالأسئلة وقلقها؛ ما قد يحيد بالإنسان عن الإيمان، ويرميه في براثن الشك، وربما الإلحاد. في حين أن النقل وقبول المنقول بعد تمحيصه بآليات ومعايير تدنيه إلى العقلانية النسبية، أو هي أقرب إلى المنطق، تخلص الإنسان من القلق، والأسئلة التي غالبًا لا يمكن أن يدركها بحواسه، فيكتنفه الشعور بالطمأنينة، ويحيا حياة نفسية أكثر استقرارًا واطمئنانًا.
وقد درج أغلب فقهاء المسلمين على النأي بالمسلم عن أوحال الشك والإلحاد، التي كثيرًا ما يثيرها الفلاسفة وعلماء الجدل، وشنوا عليهم حربًا شعواء، كانت من أهم أسباب بقاء الإسلام حتى يومنا هذا بعيدًا عن تجاذبات الشك، وكانوا في تقديمهم للنقل وتهميشهم للعقل ينطلقون من أن الذود عن حياض الإيمان يتطلب مواقف صارمة لا هوادة فيها لمواجهة المدارس الفلسفية والمنطقية. وأتذكر أنني قرأت أن أحد الفقهاء قد شبه العقل بالدابة، توصلك إلى كبار القوم، لكنها لا تدخل معك إلى مجالسهم. غير أن هذه النظرة الضدية لكل ما هو عقلاني كبلت الثقافة العربية الموروثة، وأقصت العقل الذي هو لب الابتكارات والاكتشافات الحديثة، وسيطر النقل سيطرة تامة، وتم إقصاء العقل إقصاء تامًا؛ الأمر الذي جعل بعضنا يعيش في جاهلية؛ والسبب الجوهري في ذلك كراهية العقل وإقصاء آلياته، وتقديم الرواية على أنها المنهل الذي يجب أن نستقي منها علومنا كلها.
إعمال العقل في القضايا الدينية الماورائية هو بلا شك قد يقود إلى الشك والإلحاد؛ لأنك لا تستطيع بالعقل الذي يعتمد على المحسوسات أن تصل إلى نتيجة قاطعة مانعة في الماورائيات، مهما كان لديك من الفطنة والقدرات والإمكانات العقلية؛ لذلك يجب أن نفصل بين ما يمكن الوصول إليه بالعقل والتجربة والملاحظة، وهي (الدنيويات)، وما لا يمكن أن نصل إليه بالعقل المجرد؛ فنسلم بالمنقول، وننأى بالعقل ومعاييره عنه.
ومن يرجع إلى تاريخ الإسلام في نهايات القرن الثالث الهجري سيجد أن (المأمون) الخليفة، بفرضه مذهب المعتزلة بقوة السلطة، وتقديم العقل على النقل بالقوة، هو أول من فعل ذلك كمذهب رسمي للدولة، بينما نجد أن الأفكار والأيديولوجيات لا تفرض من الأعلى، وإنما يجب أن تبقى اختيارية، فجاء فرض هذا الخليفة والخليفتَين اللذين أتيا بعده منهج الاعتزال بالنطع والسيف من أهم أسباب كراهية الناس للعقلانية فيما بعد، رغم أنهم يقرون من حيث المبدأ بأن العقل مناط التكليف.
صحيح، وأنا أقول ذلك وأردده أن الإنسان المسلم السوي يجب عليه في أحايين كثيرة عدم الانزلاق إلى (تأليه العقل)، والاحتكام إليه في كل صغيرة وكبيرة، لكنه أيضًا يجب ألا يهمش العقل تهميشًا كاملاً في القضايا التي يستطيع العقل أن يشارك فيها. وقد كان الفقهاء الأوائل يحفظون للعقلانية دورًا جوهريًّا في تأسيس كثير من العلوم الإسلامية. يأتي على رأس هؤلاء علماء أصول الفقه، الذين يجعلون من (القياس) معيارًا يمكن أن نصل به للمقبول والمرفوض. وغني عن القول أن (القياس) آلية عقلانية محضة.
كل ما أريد أن أقوله في هذه العجالة أن الاتكاء على النقل اتكاء مبالغًا فيه، مهما اعتراه من اللامعقول خطأ، مثلما أن الاتكاء على العقل وتهميش المعلوم من الدين بالضرورة هو الآخر خطأ أيضًا.
إلى اللقاء