سهوب بغدادي
كانت بريئة بل كانت شفافة كالزجاج، تبدي ما في نفسها من مشاعر وتبذل الخير للغير، أحبها والداها بجنون فحافظا عليها من كل الأخطار وخيبات الظنون فأصبحت الأسعد والأفضل في كل المجالات إلى أن أتى اليوم الذي أحبت فيه نصيبها، لتبدأ حياة جديدة من كل النواحي. ذهبت تاركة خلفها الدلال المادي والمعنوي. لم تكن متهيئة لتلك الحياة الصعبة إضافة إلى عبء الصدمة الثقافية وعنصرية الشعب في ذلك المكان. حاربت لكي تتأقلم وتندمج مع شعب يحكم على غطاء رأسها فلقبها (برأس الخرقة) مضت في التغاضي سنين إلى أن أتى اليوم الذي استقبلت فيه طفلتها حين نست فرحتها وأبدلت دموع الفرح إلى دموع الألم بسبب الاضطهاد والإساءة النفسية واللفظية والجسدية من قبل إحدى الممرضات -للأسف- لم تكن تعرف حقوقها كمريضة وكانت خائفة لذلك آثرت الصمت على الكلام والعفو مع عدم المقدرة. داهمتها الكوابيس فأصبح المشهد يتكرر في مخيلتها كل يوم وليلة، بل إنها كانت تشعر أحيانًا بالألم الجسدي ذاته جراء ما تعرضت له على أيدي صاحبة الأمانة. حاولت مرارًا التخلص من مشاعرها السلبية فلم تستطع، فمضت في سنينها التي لا تحسب من عمرها. كانت تفتقر إلى الحب والأحساس بالقيمة فبحثت عنه لدى الضعاف والمساكين ومن ثم انخرطت في الأعمال التطوعية بطريقة هستيرية لأن مجرد ابتسامة أو دعوة صادقة كانت تملأ مخزونها بالحب والتقبل للذات أيامًا عديدة. تتمتم في نفسها «يارب أنا لا أريد أن أكون أنانية أو أن أطلب الكثير ولكنني أتمنى لو كان لدي في غربتي صديق، وليس أهل لأن ذلك مستحيل». في ذلك الصباح حين كانت تؤدي أعمالها التطوعية أقبل عليها أحد الأشخاص الذين كانت تساعدهم فقال لها «أرغب بالدخول في الإسلام»، فصعقت لما سمعت وقالت: «لماذا تقول لي ذلك؟» فقال:» لأنني رأيت فيك الشخص الذي أريد أن أكون مثله»، من هنا وجدت أسمى هدف لحياتها وأعظم حب فأغلقت تلك الصفحات القديمة لتنشئ مكانًا آمنًا للمسلمين وحديثي الإسلام من المتعرضين للعنصرية في بلاد لا تحترم الاختلاف والحريات سوى على الورق. خلال عملها وجدت غاية وحبًا آخر ثمينًا، ألا وهو حب الوطن وإظهاره بأفضل صورة فاعتزمت على تكريس أيامها لهذه القضية. كانت الأمور على ما يرام وبدا الجميع متقبلاً لأفكارها التي ناقضت ما جاء في سيل إعلامهم على مر السنين إلا أن الحبكة الدرامية كما جرت العادة تستلزم ظهور خطب ما. استيقظت ذات صباح تحتسي قهوتها لتتصفرسائل البريد الإلكتروني ثم تجد رسالة ظاهرها معتاد وباطنها قاتل لترمي كوب القهوة على الأرض من هول ما لمحت. كانت رسالة قصيرة ولكنها الأعظم تأثيرًا «أعرف أين تسكنين، شقة رقم8 بناية رقم، سأقوم بقتلك من حيث لا تعلمين، فقط توقفي»، كانت هذه الكلمات كفيلة بأن تجعلها تلزم المنزل 3 أيام دون الذهاب إلى الجامعة، لم تخبر أحدًا خوفًا على ضياع كل ما بنته بمفردها السنين الماضية. كانت تتلقى اتصالات الأهل وتظهر فرحتها وتبتسم على الدوام في وجه زوجها وابنتها. راودت نفسها عن الذهب إلى مركز الشرطة لتقديم شكوى فاطلعت على الرسالة مجددًا لتأخذ منها صورة فإذا بالعنوان البريدي لا يعمل بتاتًا فوقعت في حيرة من أمرها. كانت خائفة وتنتظر الموت من كل ناحية حتى في منزلها، فاعتزلت جميع الغرف التي بها نوافذ مخافة من أن يفي ذلك المجهول بوعده. كانت خائفة إلى أن انقلب خوفها تقبلاً وأمرًا واقعًا «إن كنت سأموت لا محالة -عفوًا على التعبير (طز)- ولكني سأموت شامخة وسأجعل مهمته صعبة، سوف أتمسك بالحياة إلى آخر نفس» لذلك ذهبت إلى مركز شرطة الجامعة ليس للشكوى بل للتدرب على فنون القتال والدفاع عن النفس. حرص أفراد الشرطة على وضعها تحت التدريبات الشاقة والمخيفة فخرجت بعد أشهر عدة بجسد مليء بالأجراح والكدمات وعقل يزخر بطرق مواجهة العدو. للأسف الشديد لم يف المجهول بوعده، ونجحت في الوصول إلى تراب وطنها، فانكبت عليه باكية وساجدة على أعظم نعمة افتقدتها خلال الأشهر الستة الماضية «الأمن والأمان». وبدأت في رحلة البحث عن وظيفة فكان همها الأول والأخير خدمة وطنها من الداخل كما قامت بخدمته في الخارج. كانت تغار من نفسها على وطنها، وكانت تعي أن (التشرط) غير محمود في بداية الحياة الوظيفية فلم تفعل. فاستمرت في طرق الأبواب 4 سنوات متواصلة، تعرضت فيها للابتزاز بغرض التوظيف تارة وخيبات الأمل والوعود الفضفاضة تارة أخرى بل عملت بالمجان في أكثر من مكان والمزيد من ذلك. تحملت وطال انتظارها فتيقنت بأن الخلل بها وليس في الخارج، كانت لا تستطيع النوم لأنها تكاد تغرق في دموعها كل ليلة. لم تعلم متى أو كيف بدأ ذلك الشعور الهجين والمستهجن بأن حياتها على هذا الكوكب أمر غير مقدر له النجاح، فتساءلت ماذا لو كنت على كوكب آخر؟ هل سأكون سعيدة؟ بل ماذا لو لم أتواجد في هذه الحياة أساسًا، هل سيشكل ذلك فرقًا؟ ماذا لو مت، هل سيكون أهلي وابنتي تعيسة؟ كلا، سيبون قليلاً ثم ينسون بعد ذلك وستجد ابنتي أمًا أخرى سعيدة لتسعدها وتلاعبها وتقوم بجميع الأنشطة التي لا أقوى على فعلها جراء تعاستي غير المبررة. زوجي الحبيب ستكون بالتأكيد أسعد وأفضل حالاً مع إنسانة تحبك أولاً ولا تفكر في أمر واحد فقط «أن أكون أو لا أكون». بالطبع حاولت التحدث عما يدور في خلدها فنصحها الآخرون باللجوء إلى الله وممارسة الرياضة والأكل الصحي وما إلى ذلك ولكن كل ذلك كان يقتلها بطيئًا. كانت تشعر بالذنب لأنها فقط تشعر، وتؤنب نفسها أكثر عندما تلجأ إلى الله ولا تجد ما بحثت عنه. كانت تتمنى أن تجد رأيًا محايدًا أو تجربة مشابهة والجميع يعلم بأن من يذهب إلى (دكتور المجانين) ويدخل العنبر لن يعود كما كان بل لن يعود في نظر الآخرين كما كان. فكيف بالشخص العليل أن يعيش خواء، جسد بلا روح يتوق إلى الارتقاء إلى عنان السماء ليجد ضالته. كانت مسلمة وذلك ما منعها. توصلت الفتاة إلى مبدأ (نحن بشر) نسعد ونشقى ونسقط لنرتقي ونبكي لنغسل شوائب مكنونات صدورنا فلن يفهم شخص ما تمر به أكثر منك, بعد الاستخارة -دون الاستشارة- ذهبت إلى معالجة سلوكية للفضفضة فوجدت أنها اتقنت الصمت دهرًا, قالت «سأفعل ما عليَّ يا الله وإن لم أجد ما يستحق سأرحل وتقبلني»، فكانت بين نار نفسها ونار المجتمع, إلا أنها ألقت بجميع الاعتبارات وراء ظهرها وأصبحت أنانية لمرة واحدة في حياتها فذهبت إلى العلاج بالحبوب -والعياذ بالله- وقال لها الطبيب المعالج «لقد تأخرت كثيرًا, فلقد عشت حياتك كلها تقريبًا في تعاسة, ماذا تنتظرين؟».
لقد ولدت من جديد... لم تعلم أن الحياة قد تكون جميلة بهذا القدر وأن هناك ألوانًا زاهية كانت محجوبة عن ناظريها.
نداء... من القصة السابقة وهي قصتي الشخصية أناشد بإيجاد خط (الحياة) لمساعدة من يمر بظروف صعبة وتراوده أفكار انتحارية. كما أناشد الجهات المختصة بالعمل على مشروع وطني لنشر ثقافة الصحة النفسية التي يستلزم تفعيلها في المدارس والجامعات وأماكن العمل عن طريق إيجاد الكوادر المختصة، ويدخل في ذلك توجيه الطلبة المعنفين. فللعنف أبعاد سيكولوجية تخرج عن كونه انفعالاً لحظيًا، كما أحزنني خبر انتحار طالبة في جامعة جدة، فما الخطب الجلل الذي جعلها تقدم على تلك الفعلة؟ لقد كانت تصرخ داخليًا دون جدوى، فالأجدر إيجاد كيان يلبي النداء. لقد قمت بنقل تجربتي بكل صدق و(دموع) عند استرجاع الماضي المؤلم لأنني أعد القلم الذي بين يدي أمانة تستوجب خط رسالة واضحة وفعالة لأبناء وبنات الوطن الغالي. دمتم بسعادة تنعكس من داخلكم لتشرق على مستقبلكم.