د. خيرية السقاف
لعلني لا أغفل ما كنتَ عليه من الإنسانية الباذخة، النفس بين يديك عجينة حيث تسقيها، وتشكلها تكون، ومتى تسقيها وتعالجها تجْمُل، ومتى تنقيها تطهُر..
أستلهم هذه الباذخة فيك، فتلهمني حنطة التكوين، وتمدني بغذاء ما جعتُ بعد لقمة واحدة منك مددت بها نفسي، وأنشأت فيَّ عجينتي..
اللحظة يا إبراهيم أستعيد موقفاً جليلاً كان منك ما نسيناه أنا وأخي الأكبر، يوم حمل عليَّ مازحاً فرماني بغطاء معدني فشج ساعدي دون قصد، يومها انهمر دمي، فهرولت «نوّارة» كي توقفه، أشرت إليها حينها بحركة من رأسك أن «لا تفعلي»، وطلبت منه أن يتولى الأمر: «امسح دم أختك، وتعال بالعلاج» طلبت إليه بحنو حازم، ذهب يركض مسرعاً حيث الشاش والمعقِّم، وأخذ بساعدي فنفرت متألمة، حينها طلبت إلي أن أتقبل بالحزم واللطف ذاتهما، وما لبثت أن أشرفت يومياً على معالجته لجرحي حتى طاب، وكلانا كان يمتثل للأمر برضا، وإقبال..
بعدها جمعتنا وأنت تشرح، ونحن نتعلَّم: بأن على المرء أن يتحمَّل مسؤولية عمله، وعلى الآخر أن يتقبل عذره، وحين يكون الفاعل معترفاً بخطئه، والمفعول به متقبلاً لعذره تطيب النفوس، والأفعال، وتستمر الحياة بحب..
كنتَ تعلمنا أكثر بالأفعال، وتغذينا بحكمة ما تحدثنا عن كل موقف حين يمثل..
الأيام معك زاخرة بالإحساس يا إبراهيم..
كل الحواس يقظة في حضورك، متوثبة قبل مجيئك، مطمئنة أمامك، رضية بحنانك..
يا لله من شلال الذكريات التي انهمرت مذ أنت مسجي بيننا، ونحن نحتمي بجسدك الصامت من فراغ سيحتوينا، وفقد سيحزننا، وشذى آخر لمسة عبق تبوح بطهرك، وأنت تنام قرير العين مبتسماً بين أيدينا،
كلنا تحولنا أولئك الأطفال يحتمون بكنفك،
كلنا غدونا جياع لنظرات عينيك المغمضتين في سلام،
كلنا في عجز الاعتراف ببشريتنا مستسلمين للقضاء فيك،
ستذهب يا إبراهيم، وقد فعلت، وسنبقى حياً فينا بعدك،
ستغيب عن عيوننا وأنت تدب فوق أديم قلوبنا،
يا حبيبي، الحديث معك لا ينتهي، وعنك يشع كانبثاق الضوء في صبح بهي،
والحياة بدونك لا تحيا إلا بك حتى نلتقي..
وإن البلسم الوحيد لنا هو أنك مقترن بأسمائنا، موغل فينا،
أنت الإذن لنا بالحياة حين لا نُعرف إلا بك،
وإننا لا نعتد إلا باسمك الذي يحملنا فوق عرصات الدنيا، ويحيينا بين أناسها..
رحمك الله أبي،
رحمك الحنَّان الرحيم أيها النادر العظيم،
أيها الإنسان الفاره، أيها الحب الكبير..«3».