محمد بن إبراهيم الحسين
يشيع الاعتقاد بأن العرب في ما يسمى بالعصور الجاهلية التي سبقت ظهور الإسلام كانوا على قدر كبير من الانحطاط الأخلاقي والانحرافات السلوكية، ولذلك يتهم البعض العرب الجاهليين بأقذر الصفات وأحط السلوكيات مما لم تتهم به شعوب أقل غيرة من العرب الذين لا يختلف أحد على بلوغهم أسمى الدرجات في مكارم الأخلاق وخاصةً في الشرف والكرم، ومثل تلك الاتهامات تشي بانحراف في الفكر وتشوه في المعتقدات والمفاهيم يجب دراسته وتحديد جذوره التي يغلب أنها تجذرت نتيجة قصور تعليمي وضحالة ثقافية، حيث إن العصر الجاهلي سمي بذلك الاسم نظراً لانتشار الجهل بالقراءة والكتابة عند العرب في ذلك العصر وليس لتدني الأخلاقيات وانحراف السلوكيات، ولذلك يجب تفنيد ما تبلور في عقول البعض من مفاهيم خاطئة وما ترسب في أذهانهم من تصورات مغلوطة عن أخلاق وعادات العرب الجاهليين وعن أحوال العصور الجاهلية نتيجة سوء فهم متراكم ونقص في المعلومات وقصور في الاطلاع، وتتجلى تلك التصورات الخاطئة باتهام العرب بتهم شنيعة وقبيحة.
إن سبب تلك التصورات الخاطئة هو الاعتقاد بأن العرب في الجاهلية كانوا بلا أخلاق لكونهم بلا أديان، وهذا تصور خاطئ؛ فالعرب في الجاهلية كانوا يدينون بديانات عديدة بعضها أديان سماوية، حيث كان بعضهم يدينون بالحنيفية السمحة ملة إبراهيم -عليه السلام-، وبعضهم يدينون بالمسيحية، وبعضهم باليهودية، وبعضهم على دين الصابئة، وكانوا على مستوى مرتفع من الأخلاق والشيم ويتصفون بالشرف والعفة والغيرة والأنفة والنزاهة والمروءة، ومما ورد في ذلك وصف النعمان بن المنذر لحال العرب قبل الإسلام ودينهم وشريعتهم ووفائهم قائلاً: (وأما دينهم وشريعتهم فإنهم متمسكون بها حتى يبلغ أحدهم من شدة تمسكه بدينة أن لهم أشهراً حرماً وبلجاً محرماً وبلداً آمناً وبيتاً محجوجاً ينسكون فيه مناسكهم ويذبحون فيه ذبائحهم، فيلقى الرجل قاتل أبية أو قاتل أخيه وهو قادر على الأخذ بثأره وإدراك رغمه فيحجزه شرفه ويمنعه دينه عن تناوله بأذى).
وقوله يصف شرفهم وعفتهم وإباءهم: (العرب: لم يطمع فيهم طامع ولم ينلهم نائل، حصونهم ظهور خيولهم ومهادهم الأرض وسقوفهم السماء وجنتهم السيوف وعدتهم الصبر، أشرف الناس حسباً وأصرحهم نسباً، وأصدقهم وعداً وأوفاهم عهداً، خيلهم أفضل الخيل ومطاياهم أصبر المطايا، ونسائهم أعف النساء).
والعرب لا يقدسون أمراً فوق الشرف وصيانة العرض حتى استرخصوا في سبيل ذلك أرواحهم، حيث يتميزون بالغيرة الشديدة التي لا يضاهيهم فيها أمة من الأمم، ومن مظاهر غيرتهم الشديدة العادة الذميمة التي قضى عليها الإسلام وهي عادة «وأد البنات» خوفاً من العار -إن ثبتت حقيقتها- كما أن غطاء الوجه كانت تستخدمه نساء العرب منذ العصر الجاهلي، وكان شائعاً بينهم في ذلك الزمن، حيث كانت النساء يلبسن البرقع الذي لا يزال مستخدماً في الجزيرة العربية ولازالت تلبسه نساء المملكة إلى الآن، ومن الشواهد على ذلك قول الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد:
وَكَشَفْتُ برقعها فأشرقَ وجهها
حتى أعادَ اللَّيلَ صُبحاً مُسفِرا
ويقول في شاهدٍ آخر من قصيدةٍ أُخرى:
جفُونُ العذَارى منْ خِلال البرَاقع
أحدُّ من البيضِ الرِّقاق القواطعِ
إذا جُرَّدتْ ذلَّ الشُّجاعُ وأصبحتْ
محاجرهُ قرْحى بفَيض المدَامِعِ
ويقول:
فولتْ حياءً ثم أرختْ لثامها
وقد نثرتْ من خدِّها رطبَ الورد
وسلتْ حساماً من سواجي جفونها
كسيْفِ أبيها القاطع المرهفِ الحدّ
تُقاتلُ عيناها به وَهْوَ مُغمدٌ
ومِنْ عجبٍ أن يقطع السيفُ في الغمدِ
يبيتُ فتاتُ المسكِ تحتَ لثامها
فيزدادُ منْ أنفاسها أرجُ الندِّ
ورغم رهافة الحس، ورقة الشعور، وصدق المشاعر، وشدة الوجد في هذه الأبيات.. إلا أنهم رغم ذلك كانوا يتمسكون بالعفة، ويشيمون عن الرذائل، ويبتعدون عن مساوئ الأخلاق.. حيث يقول الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد:
لئن أكُ أسوداً فالمسكُ لوني
ومَا لِسوادِ جِلدي منْ دواء
وَلَكِنْ تَبْعُدُ الفَحْشاءُ عَني
كَبُعْدِ الأَرْضِ عَنْ جوِّ السَّماء
قال الأنصار للنبي -عليه الصلاة والسلام-: (إن سعد بن عبادة رجلٌ غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، ولا طلق امرأة قط فاجترأ أحد منا أن يتزوجها من شدة غيرته!).
قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني).
وحين أتت هند بنت عتبة مع النساء لمبايعة النبي -عليه الصلاة والسلام- تلا عليهن بعض آيات من القرآن الكريم، فلما قال: {وَلَا يَزْنِينَ}. قالت هند: «أوَ تزني الحرة؟!»
فسؤالها التعجبي يدل على أنفة وعفة وطهارة، وهي الفطرة السوية التي فطر الله عليها نساء العرب في الجاهلية والإسلام..
قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام).
وقال -عليه الصلاة والسلام-: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
فمن كانت هذه أفعالهم السامية وفطرهم السوية؛ كيف يتهمون بتلك التهم القبيحة الشنيعة المزرية..
والنبي -عليه الصلاة والسلام- عاش أربعين عاماً من عمره في الجاهلية قبل مبعثه، ولو كانت أخلاق العرب في الجاهلية بهذا القبح والفساد ما بعث الله نبيهم منهم وهو الذي وصفه الله تعالى بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.