د.عبدالله مناع
قبل أن أحزم حقائبي.. إلى مصيفي الذي انتهيت إليه في تلك المدينة الفرنسية الصغيرة على الحدود السويسرية: «ديفون».. بعد عمر طويل في مصيفيّ السابقين والجميلين - على التفاوت بينهما -: «الطائف» و»الإسكندرية».. كان طبيبي الذي أخرجني من تلك الوعكة البصرية المفاجئة بكفاءة واقتدار.. يلزمني بـ(الامتثال) لفترة «نقاهة» تمتد إلى (شهرين) دون قراءة وكتابة أو (مشاهدة)!! والاكتفاء بـ(الاستماع) وحده.. دون سواه، وهو ما أعادني إلى أيام الدراسة الإعدادية والثانوية.. عندما كان يشكل «الاستماع» عندي أحد أهم مصادري المعرفية والترفيهية عبر إذاعات «لندن» و»القاهرة» فـ «صوت العرب» و»الشرق الأوسط» فـ(صوت أمريكا).. لأجد نفسي أسيرَ غرفتي: «نومي» ومكتبي، و»المذياعين» اللذين يقبعان فيهما إلى جوار سريري ومكتبي...!؟
لكن ولأني مستمع قديم لـ»الإذاعة» ومحب لها.. فلم أجد في قرار طبيبي الفادح - دون شك - بعدم القراءة والكتابة أو المشاهدة.. تلك المرارة المتوقعة والمفترضة.. بل وجدت فيه فرصة لـ(التعرف) على ما أصبحت تقدمه (إذاعة جدة)، التي عرفتها وعرفتني منذ العودة منذ سنوات الابتعاث إلى (جامعة الإسكندرية): كاتباً ومعداً ومشاركاً ومعلقاً ومتحدثاً يومياً.. كأحاديثي فيها عن (جدة التاريخية) في برنامج «النقش في الذاكرة»، الذي تمت إذاعته قبل ثماني سنوات تقريباً، والتي تحولت فيما بعد إلى كتاب بعنوان: (تاريخ ما لم يؤرخ).. بل و»ضيفًا» على «الإذاعة» مراراً وتكرارًا».. كان آخرها - مصادفة - في شهر سبتمبر الماضي عندما استضافني برنامج «مدارات» الثقافي المنوع، الذي يقدمه أسبوعياً: الإعلامي الأكاديمي الموهوب الدكتور زيد الفضيل، لأروي فيه - أطرافاً - من قصة حياتي مع الصحافة والأدب، والذي اكتشفت خلال أسابيع (سجن الاستماع) التي وضعني فيها طبيبي بأنه واحد من أفضل البرامج الثقافية.. لا يدانيه في قيمته الثقافية سوى برنامج: «موسوعة الأدب والأدباء»، الذي تعده أسبوعياً بـ(صياغة) وحرفية مدهشة: (إدارة الملك عبد العزيز الوطنية).. لـ(إذاعة جدة).. التي ستحتفل في شهر أكتوبر من العام الحالي بمرور واحد وسبعين عاماً على نشأتها الأولى عند انطلاقتها من مقرها الأول بـ(جبل هندي) في مكة المكرمة.. ولساعات إرسال لا تزيد عن الساعتين في اليوم!! لـ(إهداء) الحجاج التائهين عن مطوفيهم.. على يد المثقف الكبير الأديب والشاعر الأستاذ عبد الله بلخير.. في أواخر الأربعينات من القرن الماضي.. من خلال وزارته للدولة، ورئاسته للمديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر، لتقفز قفزتها الكبرى في أوائل الستينات الميلادية من القرن الماضي على يد (مايسترو) الإعلام والدبلوماسية الشيخ جميل الحجيلان - أمد الله في عمره -.. عندما سمح - ولأول مرة - بإذاعة الأغاني الدينية والوطنية خلال ساعات إرسالها التي امتدت في أيامه لـ(اثنتي عشرة) ساعة في اليوم.. بتقديمها لأغنيتي: «نهج البردة» الدينية لشوقي والسنباطي وسيدة الغناء العربي «أم كلثوم».. وقصيدة «فلسطين» الوطنية للشاعر على محمود طه وموسيقى وغناء سيد الموسيقى والغناء العربي الأستاذ محمد عبد الوهاب.. لتكون أول أغنيتين تقدمهما إذاعة جدة في تاريخها ليتواصل بعدها - عبر وزراء الإعلام اللاحقين - تقدم «إذاعة جدة» وتطورهاتى غدا إرسالها المسموع على موجات الـ(FM) إلى أربع وعشرين ساعة.. في اليوم!!
كان طبيعياً.. في سجن الاستماع هذا الذي وضعني فيه طبيبي أن أتابع تفاصيل ما تقدمه (إذاعة جدة) من البرامج.. بحكم القرب المكاني منها، ووضوح وصفاء إرسالها.. إلى جانب تاريخي الطويل معها، لأكتشف سعيداً بعد الأربع والعشرين ساعة الأولى من الاستماع إليها.. بأنها تقوم بواجبها (الإعلامي) نحو مستمعيها من المواطنين والمقيمين على أكمل وجه، فهي تقدم نشرات إخبارية عامة على رأس كل ساعتين من ساعات إرسالها.. إلى جانب برنامج إخباري يومي آخر بعنوان (حصاد الظهيرة) يتولى التعليق على أهم أحداث الساعة، لا يعيبه إلا تكرار أسماء المعلقين والمتحدثين فيه الذين تتصل بهم الإذاعة للإدلاء بآرائهم ووجهات نظرهم في تلك الأحداث.. إلى جانب نشرة يومية عن «البورصة» وأسعار الأسهم بعنوان (المؤشر).. إلى جانب نشرة يومية عن (الطقس) وأحواله، لتزداد سعادتي بتلك البرامج المفتوحة على المستمعين والمستمعات ومشاركاتهم الهاتفية عبر هواتف الإذاعة المجانية التي أعطت (إذاعة جدة) حيوية وحضوراً خلاباً، يضاف إلى ذلك عدد من البرامج المتميزة بـ(محتواها) وحاجة المستمعين إليها.. غير تلك التي أشرت إليها سابقاً.. كـ»برنامج» عيادة الإذاعة» الذي يقدمه الدكتور عبدالحفيظ خوجة وبرنامج «أحاديث من السنة» وبرنامج «تراثنا» وبرنامج «دام عزك» وبرنامج (أكون أو لا أكون) الفريد من نوعه والذي تقدم فيه الإذاعة لقاءات مع عباقرة ذوي الاحتياجات الخاصة، الذين استطاعوا أن يتغلبوا على إعاقتهم بـ(تميزهم) وصبرهم وشجاعتهم.. كالأستاذ.. (عبد الرحمن عسيري) إن لم تخني الذاكرة، الذي كان ضيف إحدى حلقات (البرنامج) الرائع، فأمتع المستمعين كما أمتعني بذكائه وحضوره اللافت وعبقرية استفادته من (طريقة برايل) في إعداد قاموس لآيات القرآن الكريم - حفظه الله وأدام عليه نعمة الصحة والعافية والتوفيق.
لكن - (إذاعة جدة) التي تطورت فيما تقدمه من برامج كل هذا التطور الملموس والمغبوط.. فشلت موسيقياً وغنائياً فلم استمع إلى أغنية أو مقطوعة موسيقية تستحق الاستماع إليها.. ما عدا تلك الروائع (الكلثومية) التي يستهل بها برنامج «مدارات» حلقاته لتكون فاتحة حوار ونقاش ثقافي أدبي له مع ضيف الحلقة، وتلك الأغاني العربية والمحلية الجميلة التي يفاجئ بها مستمعيه صاحب برنامج (أبواب) الإذاعي المخضرم الأستاذ فريد مخلص.. كما فاجأني بتقديمه في إحدى حلقات برنامجه بأغنية: «أنستنا» لـ الفنان الكبير الجميل: الأستاذ محمد عبده.. ولكن بصوت الأستاذ فوزي محسون.. أما بقية معظم ما تقدمه إذاعة جدة من أغانٍ فهي «خَبع ولَبع» - كما يقولون - من الدرجة الثالثة.. أو ما دون ذلك!!
أمام هذا الفشل في إعداد خارطة غنائية وموسيقية لساعات إرسال الإذاعة.. فقد كان هناك اهتمام ملموس ومبالغ فيه بـ(الرياضة) وأخبار منافستها في «الدوري» و»الكأس».. إلى درجة منح (الرياضة) ومنافساتها أكثر من ساعتين يومياً من ساعات إرسال الإذاعة: بداية من خلال برنامج «المدرّج».. الذي كان يبث يومياً من الرابعة عصراً إلى السادسة مساءً، ثم توقف ليحل محله برنامج «كوكتيل»، لكن ليتم ترحيل برنامج «المدرج» إلى أفضل ساعات إرسال الإذاعة عند الساعة الحادية عشرة مساءً.. ولمدة ساعة ونصف الساعة يومياً وفي أفضل ساعات الاستماع إلى الإذاعة، ليضيف أحد رؤساء هيئة الترفيه السابقين - كما قيل - (قراراً) انحيازياً آخر بنقل منافسات الدوري والكأس إلى إذاعة جدة لنقلها حية على الهواء أيام الخميس والجمعة والسبت في زمن لم يعد أحد فيه يستمع إلى النقل الإذاعي لتلك المباريات.. بعد أن تولت القنوات الرياضية -وما أكثرها- نقلها حية على الهواء، ولكن (المجاملة) فيما يبدو هي التي أوحت.. بقرار (العودة) إلى فكرة النقل الإذاعي للمباريات التي أكل الدهر عليها وشرب!!
على أي حال.. كان اللافت خلال استماعي الطويل والمستمر لـ(إذاعة جدة).. هو ترديدها لـ(تيمة): (إذاعة جدة.. على هواك)!!؟ التي بدأها مديرها السابق الإذاعي الأشهر الأستاذ سمير بخش صاحب أكبر عدد من الجوائز الإعلامية العربية ليستمر من بعده وإلى يومنا هذا، وهي (تيمة) فيها روح استجداء غير مبرر لـ(مستمعي) الإذاعة.. ومع ذلك فقد كان يمكن القبول بها لو أن (إذاعة جدة) خففت من غلواء اهتمامها بـ(الرياضة) ومنافساتها المحلية والدولية.. وأعطت اهتماماً أوسع بالجوانب الثقافية والتعليمية والاجتماعية، لتنشأ عندي (تيمة) مُقابِلة غير قابلة للإذاعة حتماً، هي التي حملها عنوان مقالي هذا: (إذاعة جدة.. ليست على هواك)..؟!