حمّاد السالمي
اخترت هذا السؤال؛ عنوانًا لمحاضرة شَرُفت بالمساهمة بها في احتفالية اليوم الوطني بـ(منتدى الثقفي) ببلاد ثقيف من جنوبي الطائف. كنت أود أن أشرك أصدقائي المثقفين الحضور؛ في الانتقال من مظاهر الاحتفالية الوطنية التي نعيشها وتتكرر كل عام؛ إلى سبر أغوار الدوافع النفسية التي تسبغ الطيف الاجتماعي بلون الورد وطعم الفرح في هذه المناسبة المجيدة.. لماذا نحتفل باليوم الوطني..؟.
* يتفق الجميع على دافع واحد للاحتفاء والاحتفال باليوم الوطني. إنه الحب الكبير. حب الوطن الذي لا يعادله حب. انتماء الإنسان إلى وطنه لا يعادل سوى انتمائه إلى أمه التي أرضعته وربته. (إننا ننتمي إلى أوطاننا مثلما ننتمي إلى أمهاتنا). هذا الانتماء الوطني العظيم يقوم على ثلاثية: (الإنسان والمكان والزمان)، ذلك أن الوطن هو كل شيء في حياتنا. هو الذي نولد ونتربّى ونعيش فيه. هو الذي نتزوج فيه ونعمل فيه ونموت فيه، حياتنا بلا وطن؛ حياة زائفة لا معنى لها. إنسان بلا وطن كشيء بلا اسم ولا قيمة ولا هُويّة. من يحب وطنه فهو بكل صدق؛ يحب أصله وتاريخه وحاضره ومستقبله. حب الوطن إيمان وعمل.
* وطننا هو ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. هو المبتدأ والخبر. هو بوتقة تجمع الأبناء بالآباء والأجداد. تجمع الكل بكل ما لهم من معتقدات، وتاريخ، ولغة، وأفكار، وموروثات، وثروات. بوتقة حانية دافئة؛ تبعث الشعور بالأمن والأمان. بالاعتزاز والفخر والتباهي والفرح. إن حب الأوطان؛ يبقى مع الإنسان من محياه إلى مماته:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
راودتني إليه بالخلد نفسي
* يتميز حب الوطن عن كل حب عرفه البشر؛ أنه حب غير مشروط. حب فطري غريزي. قال الغزالي -رحمه الله-: (البشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا اُنتقص). ومما أثر عن ابن الجوزي قوله: (إنّ فطرة الرجل معجونة بحب الوطن، فالإبل تحن إلى أوطانها، كما تحن الطيور إلى أوكارها). قال ابن الرومي:
وحبِّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ
مآربُ قضَّاها الشبابُ هُنالِكا
إذا ذكَرُوا أوطانَهم ذكَّرتْهمُ
عهودُ الصبا فيها فحنُّوا لذلكا
* إن ارتباط الكائن الحي بالأرض التي يحيا عليها، والبيت الذي يسكن فيه، ليس مجرد أمر وجداني، أو حالة عاطفية طارئة يمكن التغلب عليها، أو حتى مقاومتها، وإنما هو أمر فطري أودعه الله -عزّ وجل- في الكائنات الحيَّة، حتى من غير الإنسان الذي تجلَّى فيه جانب الوجدان؛ فبعض الأسماك في قاع البحار والمحيطات؛ تسافر مئات الأميال لغرض (بيولوجي)، ثم تعود إلى موطنها الأصلي، وبعض الطيور؛ تهاجر أيضًا لمئات الأميال من موطنها إلى بلاد بعيدة؛ ثم تعود من حيث أتت إلى موطنها الأول، بل إلى أعشاشها (منازلها) ذاتها؛ لا تخطئها ولا تتعداها.. وإذا كان هذا هو شأن تلك المخلوقات التي توصف غالبًا بضعف الذاكرة إذا قيست بالإنسان؛ فما بالنا بالإنسان الذي يحمل ذكريات مع تفاصيل المكان الذي يحيا فيه، ويرتبط به وجدانيًّا..؟!، حتى إذا بعد عن عَيْنِه تلفَّت قلبُه إليه:
وَتَلَفَّتَتْ عَيْنِي فَمُذْ بَعُدَتْ
عَنِّي الطُّلُولُ؛ تَلَفَّتَ القَلْبُ
* جسّد أمير الشعراء (أحمد شوقي) هذا المعنى العظيم لصلة الإنسان بالمكان في قصيدة بديعة، صوَّر فيها عصفورتين في الحجاز مَرَّ عليهما ريح جاء من اليمن، وعرض عليهما أن يحملهما إلى هناك؛ حيث الماء كاللبن، والحَبُّ كالسُّكّر، فكان رد إحدى العصفورتين مفاجئًا له. قال شوقي:
عُصْفُورَتَانِ فِي الحِجَازِ
حَلَّتَا عَلَى فَنَنْ
فِي خَامِلٍ مِنَ الرِّيَاضِ
لَا نَدٍ وَلَا حَسَنْ
بَيْنَا هُمَا تَنْتَجِيَانِ
سَحَرًا عَلَى الغُصُنْ
مَرَّ عَلَى أيْكِهِمَا
رِيحٌ سَرَى مِنَ اليَمَنْ
حَيَّا وَقَالَ دُرَّتَانِ
فِي وِعَاءٍ مُمْتَهَنْ
لَقَدْ رَأَيْتُ حَوْلَ صَنْعَاءَ
وَفِي ظِلِّ عَدَنْ
خَمَائِلاً كَأنَّهَا
بَقِيَّةٌ مِنْ ذِي يَزَنْ
الحَبُّ فِيهَا سُكَّرٌ
وَالمَاءُ شَهْدٌ وَلَبَنْ
لَمْ يَرَهَا الطَّيْرُ وَلَمْ
يَسْمَعْ بِهَا إلَّا افْتَتَنْ
هَيَّا أرْكَبَا فَنَأتِهَا
فِي سَاعَةٍ مِنَ الزَّمَنْ
قَالَتْ لَهُ إحْدَاهُمَا
وَالطَّيْرُ مِنْهُنَّ الفَطِنْ
يَا رِيحُ أنْتَ ابْنُ السَّبِيلِ
مَا عَرَفْتَ مَا السَّكَنْ
هَبْ جَنَّةَ الخُلْدِ اليَمَنْ
لَا شَيْءَ يَعْدِلُ الوَطَنْ
* صدقت عصفورة الحجاز الأبية. لا شيء يعدل الوطن...! ثم.. لا وطن عندي يعدل بلادي (المملكة العربية السعودية)، بلاد التوحيد. مدار التبجيل والتمجيد. أرض الحرمين الشريفين. مهبط الوحي، ومدرج المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. أرض التاريخ والبطولات، التي أنجبت القادة الفاتحين، وشهدت ملحمة التأسيس والتوحيد على يد المؤسس والموحد الملك (عبدالعزيز آل سعود) طيب الله ثراه. بلاد الثراء والثروة، والعزة والنخوة العربية، لحماية كل ما هو عربي وإسلامي.
* وطن سعودي عظيم؛ يستحقه كل مواطن سعودي شريف؛ يحفل ويحتفل به في كل وقت.. من أجل هذا الرخاء والسخاء والبهاء؛ نحتفل بيومنا الوطني.