محمد عبد الرزاق القشعمي
عرفت الشيخ محمد بن سليمان بن إبراهيم الذييب، منذ صغري إذ كنت أمسك يد والدي البصير، عندما يأتي من عقلة (معقرة) مشياً على الأقدام في طريقه إلى بلدة (العقدة) حيث منزله الآخر، وفي الطريق نمر على بلدة (البلاد) والتي يسكن بها الشيخ الذييب، وكان والدي من أصدقائه ويحب أن يستريح عنده ويتناول القهوة والهجور قبل مواصلة السير إلى العقدة.
أتذكر -وأنا في حدود الخامسة من عمري وقتها- أن باب منزل الذييب مقابل مسجد (الذيابا) جنوب البلاد، وكان يفرش سجادة في مدخل المنزل (المصباح) ويرحب بمن يأتيه. وكان سمحاً مبتسماً متساهلاً في معاملته وحديثه، وقد لفت نظري وجود مجلة على غلافها صورة أحد العمال، وهذا من المستنكر وجود صورة وفي منزل أحد طلبة العلم المشهورين، كما لاحظت بجواره قلم حبر مفتوح فأخذت أعبث به فدخل في كم ثوبي وتلوث بالحبر، فاستعاد القلم مني وهو يتبسم دون أن يشعر والدي، لأنه يعرف سرعة غضبه والذي لن يغفر لي عبثي. علمت فيما بعد أن ذلك بحدود عام 1370هـ وكان وقتها مديراً للمدرسة الحكومية الأولى والوحيدة بالزلفي.
بعد سنتين علمت بانتقاله للعمل قاضيا في بلدة رحيمة (راس تنورة) بالمنطقة الشرقية، وكان يزور الرياض في فصل الصيف ويحتفي به محبوه من طلبة العلم ومنهم والدي -رحمهم الله-. كانت المنازل -وقتها- شعبية وتفتقر لوجود أماكن للوضوء أو قضاء الحاجة إلا داخل المنزل. أذكر أنه في ضيافة والدي مع عدد من طلبة العلم، فدعاني ليهمس في أذني قائلاً: هو بيتكم طاية -أي سطح-؟.. فأجبته بنعم، فقال (أبا أشوفها) هو يعرف أننا بالقايلة ولا يكون بالسطح عادة أحد في مثل هذا الوقت.. وبمجرد فتحي للباب الذي يؤدي إلى السطح، طلب مني العودة، عرفت بعد ذلك أنه سيقضي حاجته من البول، وكنا نقول وقتها: ينثر الماء.
أصبح طوال مدة زياراته للرياض صيفاً يسكن في حي الشرقية جنوب المقيبرة، وكان يستقبل زواره من طلبة العلم بعد صلاة العصر، وكنت أفرح بذلك لوجود القهوة والشاي وشيء جديد لم أعرفه بعد وهو (قواطي) علب عصير المنقا أو رانجوز أو طماطم، يوزع على الحضور بعد تناول القهوة والشاي. وكان أغلب الحضور من فاقدي البصر، عدا المضيف وصهره موسى العمير، ومعهما شابان يتوليان تقديم الخدمة؛ عرفت فيما بعد أنهما صالح ابن الشيخ الذييب وأصغر أبنائه، وعثمان بن موسى العمير، وكانا يمزحان ويعبثان أمام الضيوف، فقد جمعا علب العصير بعد انتهاء ما بها، وملآها بغسيل الفناجين وأعادا توزيعها على الضيوف العميان، وعندما تذوقوها لم يجدوا بها الطعم السابق فأعادوها، مقابل ضحكات الشابين وابتسام والديهما دون أن يلوموهما أو يعنفوهما.
بعد ثلاث سنوات، وفي صيف عام 1378هـ، وبعد انتهاء درس الشيخ محمد بن إبراهيم في مسجده بدخنة بالرياض بعيد طلوع الشمس، نقل للحضور خبر وفاة الشيخ محمد الذييب قاضي رحيمة، وكان لوفاته المفاجئة ردة فعل سيئة لدى محبيه ومنهم والدي، -رحمهم الله-.
علمت فيما بعد أنه كان يعد لخطبة صلاة الجمعة قبل أن يحين موعدها بقليل، فتأخر حضوره للمسجد مما دعا رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبدالله الدويش بالمجيء لمنزله المجاور للمسجد لاستعجاله فوجده ملقى على وجهه وقد فارق الحياة، فعاد الدويش للمسجد وألقى خطبة مختصرة وأمّهم في الصلاة وهو يرتجف.
كان لدي رغبة في الكتابة عن الشيخ الذييب كرائد تعليم في الزلفي ولما يتحلى به من صفات حميدة، بحثت عمن يزودني بمعلومات أجهلها عنه. ووجدت أن الأستاذ فهد الكليب قد ترجم له باختصار في كتابه (علماء وأعلام وأعيان الزلفي) فلم أكتف بذلك، ووجدت أخيراً لدى الشيخ الدكتور محمد البراهيم الحمد نبذة عن سيرته بخطه والذي زودني مشكوراً بصورة منها.. يذكر فيها:
أن أصلهم من المدينة المنورة، وقد انتقلوا إلى التنومة من قرى القصيم، انتقل بعد ذلك جده إبراهيم وسكن الزلفي، ورزق بأربعة أبناء وأربع بنات، منهم والده سليمان وعمه حمود الذي أحسن صنعة والده في النحاس مع خطه الجميل الذي أخذه عنه.
تعلم من عمه الخط إلى جانب قراءته بمدرسة محمد العمر، فختم القرآن عام 1336هـ، واشتهر بخطه الجميل فأصبح كل من أراد كتابة وصية أو وكالة أو رسالة أو مخالصة يأتي إليه، بدأ في عام 1339هـ يقرأ على قضاة الزلفي بدءاً من الشيخ فالح العثمان الذي قرأ عليه ثلاثة الأصول وكتاب التوحيد وكتاب كشف الشبهات للشيخ محمد بن عبدالوهاب ثم كتاب التهذيب لشرح التوحيد للشيخ عبدالرحمن بن حسن، وصحيح البخاري وكتب ابن تيمية وغيرها.. ثم قرأ على الشيخ عبدالرحمن بن سعد قاضي الزلفي من 1356- 1361هـ تفسير ابن كثير والبداية والنهاية وأعلام الموقعين لابن القيم، وزاد المستقنع، وفي الفرائض وغيرها. وقرأ على الشيخ سليمان بن عبيد كتاب المغني في الفقه والشرح الكبير وأعلام الموقعين. إضافة لإمامته وتولى الخطبة في أيام الجمع، كما تولى إمامة وحلقات الذكر في مسجد العتيق، ويتولى القضاء بالوكالة عند غياب القاضي.
تزوج عام 1346هـ وحج، وقال: إنه عند افتتاح المدرسة الأميرية بالزلفي عام 1368هـ تولى إدارتها كأول وظيفة رسمية اعتباراً من 3-2-1368هـ وكان من طلابها أبناؤه: عبدالرحمن وعلي، وعبدالمحسن العباد، وحمود البدر، وأحمد الرومي، وسليمان الفالح، وعبدالله الردن.. وأنهم قد نجحوا كأول دفعة تجتاز امتحان الشهادة الابتدائية عام 1371هـ.
قال إنه بقي مديراً للمدرسة -رغم تعرض نظره للضعف- إلى 5-5-1374هـ إذا انتقل عمله من المعارف إلى رئاسة القضاء مساعداً لقاضي الظهران الشيخ سليمان العبيد اعتباراً من 1-7-1374هـ انتقل بعدها ليتولى القضاء في رأس تنورة ورحيمة اعتباراً من 10-2-1377هـ، كما كلف بالقضاء في مدينة الخبر لبضعة أشهر، وقد طلب أهالي رحيمة إعادته لهم فأجيب طلبهم ليبقى بها حتى وفاته -رحمه الله-.
* ترجم له في (موسوعة تاريخ التعليم في المملكة العربية السعودية في مائة عام) ط2 «من مواليد الزلفي، تلقى تعليمه الأولى في الكتاب، فدرس القرآن الكريم والحديث والتجويد والنحو، عمل معلماً عام 1340هـ للقرآن الكريم، وبعض مسائل الفقه والعقيدة.. تعليم الزلفي».
* قال عنه ابنه عبدالرحمن: «إن الوالد قد اشتهر بوظائفه العديدة في المجال الديني، علاوة على امتيازه بخط جميل تتزين به صكوك أبناء الزلفي الذين ما زالوا يحتفظون بها، وكان الفضل في خطه الجميل إلى عمه (حمود) أشهر خطاطي الزلفي..» عدد بعد ذلك مهامه الوظيفية مديراً لأول مدرسة حكومية في عام 1368هـ، ورئيساً لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام 1373هـ، مساعد رئيس محكمة الظهران الشرعية 1374هـ، رئيس محكمة رأس تنورة 1375هـ، رئيس محكمة الخبر 1377هـ، وبعد أشهر يعود لمحكمة رأس تنورة حتى وفاته..».
* قال عنه الدكتور محمد المفرح في كتابه: (من الزلفي إلى برلين.. سيرة طبيب) «... ولقد وفقنا الله بمعلمين أفاضل ذوي تأهيل ممتاز حسب الظروف المتاحة آنذاك.. منهم المربي الكبير الشيخ محمد بن سليمان الذييب الذي كان مديراً لأول مدرسة حكومية في الزلفي، وكان معه أخوه إبراهيم الذييب الذي كان بجانب جده، له مسحة فكاهية ظريفة».
وقال إن الذي افتتح المدرسة هو معتمد المعارف بالقصيم الشيخ صالح العمري وأنه أحضر معه مدرسين هما: محمد العثمان البشر وصالح الموسى العضيب، وقال إن مساعد مدير المدرسة عبدالرحمن الفالح قبل أن يكلف محمد الملحم. وذكر من المدرسين الأوائل: موسى العمير، وإبراهيم الذييب، وعبدالرحمن الدويش، وعثمان الفالح وفالح الرومي، وعبد الرحمن الداوود ومن فلسطين خميس سويدان، ومن مصر سيد إسماعيل سيد همام، وعبد الحميد علي مصطفى.
* وقال الشيخ حمد الجاسر في: (من سوانح الذكريات) إنه عندما كان معتمداً للمعارف في نجد.. أنه قد زار الزلفي عام 1370هـ وقال إن مدرسة الزلفي ومديرها محمد السليمان الذييب ومعه خمسة مدرسين.
* ذكر فهد الكليب نقلاً عن ابنه علي الذييب قوله: «كان رحمه الله كريماً في ماله، عرف عنه الإنفاق الكثير، سباقاً إلى فعل الخير، وعند وفاته كان مداناً بمبلغ تسعة عشر ألف ريال، وتكرم جلالة الملك سعود بسدادها عنه بواسطة إمارة المنطقة الشرقية.. وقال إنه كان يعالج المرضى بالرقية، وقراءة القرآن، وكتابة ما يسمى بالعزيمة من الذكر والورد..).