مدخل:
لتوصيف الرمز في اللغة فإن المعجمات اللغوية تعرفه بقولها: «الرمز: إِشارة وإِيماء بالعينين والحاجبين والشفتين والفم. والرَّمْزُ في اللغة كل ما أَشرت إِليه مما يُبانُ بلفظ بأَي شيءٍ أَشرت إِليه بيد أَو بعين».
ومن اللغة تظهر اللمحة الأولى للرمز الدال على الإيماء والاستغناء بالحركة عن الكلام المنطوق، وهذا الإيماء الحركي يمكن نقله إلى قالب لغوي يقوم بدور التعمية عن المقصود الصريح من اللفظ المباشر. والتطور الدلالي لهذه اللفظة هي رافد أمد التعريف الاصطلاحي الذي عَرَّف الرمز بأنه: «كل إشارة أو علامة محسوسة تذكِّر بشيء غير حاضر». وعُرِّف أيضا بأنه: «عبارة عن شيء يقوم مقام شيء آخر أو يمثِّله أو يدل عليه لا بالمماثلة وإنما بالإيحاء السريع أو بالعلاقة العرضية أو بالتواطؤ».
وتاريخياً تعود الرمزية كما أشار الباحثون إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لكن الرمز لم يعد بذلك التناول الخالي من التعقيد المشابه لبداية تكونه؛ إذ الدراسات اللسانية الحديثة جعلت من الرمز دراسة سيميائية للنصوص. فجاء الرمز بوصفه إحدى العلامات المهمة للدراسة عند (دي سوسير) و(بيرس) على ما بينهما من فروق في فهمه وتطبيقه. فيوافينا (بيرس) بتعريفه للرمز الذي وصفه بأنه: «علامة تشير إلى الموضوعة التي تعبر عنها عبر عرف، غالباً ما يقترن بالأفكار العامة التي تدفع إلى ربط الرمز بموضوعه». وإذا ما بُحث عن الرمز بوصفه قضية كبرى مهتماً بها على نحو أوسع فإنه يظهر على يد (تزفيتان تودوروف) في كتابه (نظريات في الرمز).
أولاً: تشكيل الرمز
عندما يطرق المبدع باب الكتابة الفنية، فإن اللغة هي ريشته التي يرسم بها الصورة المقدمة في عمله. تلك الصورة تحتاج إلى إطار يَحْمِلُها لتشكِّل بها قالبا يحتويها. هكذا الرمز؛ فاللغة المستخدمة تحتاج شكلاً/إطاراً/قالباً تظهر فيه، يمكن بها أن يتعاطى معها المتلقي.
فجاء الرمز عند عبد العزيز الصقعبي في تشكيلات لغوية مختلفة، أكسبها التنوع والتجدد في كل مرة يُتلقى فيها الرمز. وهذا التشكيل البنائي الذي احتوى الرمز واقتحم به الذهن جاء من خلال التالي:
1 - الشخصيات:
شكلت الشخصيات وعاء/إطاراً للرمز الذي استخدمه القاص؛ فالشخصيات لها من التوهج والحضور بحكم ماضيها التاريخي أو موقفها الحياتي ما يكفي أن يجعل الرمز يتوقد، ويحقق مآربه المنوطة به. وما يحدد الرمز في الشخصية هو سيرتها، أو الإحالة المعرفية الأولى عنها في ذاكرة المتلقي، وهذا يتطلب من القاص الدقة في اختيار الشخصية التي تؤدي دور الرمز دون إبطاء من سرعة تلقي القارئ على النحو الذي يجعل من عملية التواصل سلسة مستمرة.
فأتت الشخصيات الأدبية العربية بعصرها الجاهلي في القصة القصيرة عند عبدالعزيز الصقعبي، مستخدماً لها في عكس واقع الشخصية التي تنكرت لماضيها. وفي هذا المقطع تراه يرمز للصعلكة بـ (عروة بن الورد) و(الشنفرى) ثم يفكك ما رمز به. يقول:
«ويرفض أحدهم أن يكون بدوياً بحجة أن لديه قدرة على اتباع جميع (طرق الحضارة) وهو يختزن بعقله مجموعة من الكلمات الجامدة التي يستطيع إلقاءها في المحافل [...] عروة بن الورد والشنفرى بالرغم من وجودهما في عصر جاهلي لكنهما يمتلئان صفوة الحضارة».
ويجدد الصقعبي هذا البناء الرمزي بواسطة شخصية عنترة بن شداد لتوصيف إحدى الفتيات الواقعة في الحب. يقول: «بهدوء تناقلت بنات الحي نبأ انتقاله إلى تلك الغرفة واضعاً أولى خطواته بثقة على عتبة عالم الرجولة [...] كل واحدة منهن بدأت تتخيله رفيق المستقبل، كانت هي أكثر جرأة عندما طلبت منه نسخة عن سيرة عنترة بن شداد، لم تكن تهوى القراءة، لكن ربما تصل إليه من خلال الكتاب». ومن هنا يمكن القول إن عالم الكاتب «الواقعي استدعى العالم الممكن الضارب جذوره في أعماق تاريخ الأدب العربي، فيبصر القارئ حينها مدى مقدار تعانق النصوص مع تلك الشخصيات [...] الأدبية».
ولم يبق الصقعبي أسيراً في الرمز بشخصيات العصر الجاهلي، ها هو يقفز إلى العصر الحديث فيرمز بشخصيتي (غسان كنفاني) و(محمد عبد الولي)، من خلال الحوار التالي:
«كنت أقرأ (رجال في الشمس).. سألتني أحقاً جميعاً يموتون؟
- هذا ما أراد (غسان كنفاني)
- القضية أكبر من ذلك.
- إذا لماذا يموتون؟
- قد (يموتون غرباء)
- عندما كانت الغربة تأخذ المنحى الأكبر لدى اليمني (محمد عبد الولي).
- ولكنه مات غريباً
- وكذا غسان.»
استثمر القاص القيمة المعرفية لشخصيتين أدبيتين شهيرتين بخصيصة معينة الأولى (غسان كنفاني) الروائي الفلسطيني الذي عرف عنه المقاومة، والثانية شخصية (محمد عبدالولي) الأديب اليمني الذي عاش غربة واغتراباً أشواطاً عديدة من حياته، حتى مات بمأساوية. ولا يفوت هنا إلى أن التوظيف كان موفقاً داخل آل حوار لبناء الحدث.
2 - المكان:
يمكن للمكان أن يشكّل رمزاً قوياً في الحدث القصصي، ربما أشد من الشخصية؛ إذ الشخصيات تحتاج إلى خلفية معرفية أعمق لتأسيس عملية التلقي الرمزي لإنجاح الدلالة الرمزية. أما المكان فلشيوع ذكره وتوالي الحديث عنه يجلي كل جهل يحوطه، لاسيما إذا كان له ارتباط وثيق بحدث مهم في تاريخ المتلقي.
ويوافينا القاص عبدالعزيز الصقعبي، بمثل هذا الشكل الرمزي بذكره «القدس»، التي تستدعي كثيراً من المتعلقات حولها مثل: خسة اليهود وغدرهم، اغتصاب الأرض، التهجير، إخلاف الوعد، إحراق الأقصى ومحاولة هدمه. كل هذه الخلفية العميقة للرمز بالمكان تصطف خلف كلمة واحدة/ القدس، فجاء طرف من السرد في إحدى قصصه على النحو التالي: «في أوقات كثيرة يفضل «حمدان» أن يزور «زاهداً» ويجلس عنده ويستمع إلى أحاديثه المتنوّعة ويسأل بشوق عن القدس [...] كان يشعر بأنه جزء من المقاومة.. ويجد أن لقب فدائي وسام كبير طالما تمناه»، كلمة «فدائي» هنا هي رد الفعل لشخصية «حمدان» المنشحن بالقيمة الرمزية للمكان المتمثّل في القدس المقاومِة، ومن ثَمَّ المتلقي.
كما جاء الرمز بـ«الصحراء» عند الكاتب لتمثل القسوة والشدة، وتربيتها لمن يسكنها على طباعها. يقول في توصيفه لإحدى الشخصيات: «الصحراء جعلته جسداً قوياً لا يأبه بالجوع ولا بالمرض»(1).
والمكان له تكوينه الثقافي المحكوم بخصائصه التاريخية والجغرافية الخاصة به، وهذا يجعل الرمز الحاضر فيه يشع بإشعاع وقود المكان نفسه، الذي كلما زاد توهجه ازداد توهج الرمز نفسه الدال على المعاني المشار إليها به، ولا أشد من الرمز بالقدس للمقاومة، أو بالصحراء للقسوة.
** **
- د. محمد المشهوري