انتشر مؤخراً في وسائل التواصل الاجتماعي ما يشبه موجة التطهر من اللقب العلمي لدى البعض، وتزعّم هذه الحركة أساتذة لا يشك الشخص في قدرهم والحب والتقدير الذي نكنّه لهم، وأضحت هذه (الموضة) في بعض الأحيان موضوعا لمن لا موضوع له ولمن ليس عنده ما يقوله أو ينتجه. وبسبب هذا التطهر قد يظن الشخص في بعض النقاشات أن استخدام اللقب الأكاديمي محذور أو أصبح كبيرة من كبائر الذنوب! وأعتقد أن للقضية أبعاداً لا بد من الإحاطة بها، ويبقى الجدل مفتوح الآفاق لمن يريد التفنيد أو الاستفزاز العلمي أو الموافقة. وقد دفعني إلى الكتابة الربط بين استخدام الألقاب وانتفاء التواضع أو أن استخدام الألقاب مردّه التكبر من جهة وبين عدم استخدام الألقاب والتواضع بشكل أوتوماتيكي من جهة أخرى، وفِي هذا من الخلل المنهجي العلمي ما يجب التحذير منه مع التنبيه على أن مثل هذا الخلل مما عالجه ديننا الحنيف كما سيأتي.
بداية أوضح أن اختفاء الألقاب العلمية في العالم الغربي الأكاديمي في اعتقادي قد يكون مردّه العادة والعرف الاجتماعي، إضافة إلى أن الألقاب عادة تشير إلى وظيفية أكاديمية قد يفقدها الشخص إذا انتقل إلى جامعة أخرى لم يتوفر له فيها وظيفة أستاذ مثلا فتعرض عليه وظيفة أقل كأستاذ مشارك؛ أما لقب دكتور فهو يلتبس بالدكتور في الطب، وهذا معروف حتى لدى الخطوط الجوية؛ إذ يفضلّون عدم استخدام لقب دكتور إلا إذا كان الشخص طبيبا في حال احتيج له على متن الرحلة. فتكرار الربط بين عدم استخدام اللقب والتواضع غير موفق في رأيي؛ فبعض الأكاديميين في الغرب وغيره ممن لا يستخدمون الألقاب تجدهم متغطرسين ومتكبرين وربما عنصريين. وقد تحدث توني ماكنري الأستاذ الفخري للسانيات في جامعة لانكستر عن انتشار لقب بروفيسور في المتن (المدونة) قديما أكثر منه حديثا فقال ما معناه: وهذا لا يعني شيئاً أكثر من أنها طريقة التنشئة والمجتمع، فهو لا يرى أن المجتمع كان متكبرا فأصبح متواضعا.
وأتفق مع من يرى الإصرار على اللقب في غير البيئة الأكاديمية خطأ يجب أن يُناقش ويكون له تبرير معقول؛ لكن لا يحال بشكل آلي إلى تكبر أو غيره. فهناك تصرف ظاهر أياً كان لا يصح علميا أن يُعزى بشكل آلي إلى سبب واحد محدد. وهذه صفة منهجية يجب أن نتنبه إليها، وهي صفة لَم يغفل عنها ديننا الحنيف. وللتوضيح فقد ورد تنبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام على أن العمل قد يكون نفس العمل لكن النية والدافع مختلفان، وذلك في حديث الهجرة التي قد تكون لله ورسوله أو لامرأة تُنكح أو لدنيا تُصاب، فالعمل نفسه في كل الحالات (الهجرة) بينما النية مختلفة. كما أننا قد نرى شخصا يواظب على الصلاة وعلى غيرها من النوافل، وهذا الأمر مع كونه محمودا إلا أن هناك احتمالاً بأن يكون عمله للرياء والسمعة أو النفاق أو خوفاً أو تمثيلاً على أحد؛ فهذه الطاعة الظاهرة لا تعني تلقائيا الصلاح وكمال الإيمان. في مقابل ذلك علّمنا ديننا أيضا أن تارك الصلاة ليس مرتدا يُقام عليه الحدّ بشكل تلقائي؛ إنما يُستفسر منه ويُستوضح عن سبب تركه: هل هو تكاسل؟ أم جهل بالحكم؟ أم جحود بوجوب الصلاة؟ أم غير ذلك، فالفقهاء لدينا في تراثنا لهم ومضات منهجية علمية حريّ بِنَا التعلم منهم.
وقد يكون وضع اللقب واجباً كما في البيئة الوظيفية؛ إذ أتذكر أول ما عدت من البعثة عُيّنت رئيس قسم فكنت لا أضع (د.) قبل اسمي حتى في الخطابات الرسمية، فتواصل معي أحد الإداريين مخطّئا إياي وقال وهو محق: هذه بيئة وظيفية يجب أن نعرف فيها مرتبتك الأكاديمية وفيها بروتوكول يجب ألا يخضع لصفاتك الشخصية التي تخالف هذا البروتوكول؛ فمارس تواضعك خارج العمل الوظيفي الذي لا يترتب عليه حقوق ومسؤوليات لو سمحت!
إضافة إلى أن المناداة باللقب لدينا تعبر عن تهذيب مثل المناداة بالكنية، فلا يحسن عُرفا أن أنادي شخصاً أو زميلاً باسمه دون لقب أو كنية. أما في الغرب فهذا معتاد ولا يستخدمون الكنية كأبي مارتن أو أبي جون مثلاً. والمناداة بالاسم مجرداً من ألقاب هي التي تشير إلى علاقة جيدة في الغرب؛ بينما اللقب يشير إلى مسافة رسمية. وكذلك بعض زملائنا الليبيين الذين كانوا يستغربون تسميتنا لزملائنا بأبي فلان، وكان بعضهم لا يرى فيها أي تقدير؛ بل كان يلحّ على أن المناداة بالاسم الأول هو الشائع لديهم ولا يعني ذلك عندهم عدم التقدير؛ في المقابل أتحرج كثيراً من زملائي المعيدين والمحاضرين وأضطر إلى مناداتهم بأبي فلان أو شيخنا أو أستاذنا أو حبيبنا، فالمناداة بالاسم الأول في مجتمع لا تعني بالضرورة أن أفراده متواضعون، كما لا يعني استخدام الألقاب التكبر أو أي شيء محدد يمكن أن نقصره عليه وننفي احتمالية غيره. وتراثنا مليء بالألقاب العلمية مثل الإمام والشيخ وشيخ الإسلام وحجة الدين وغيرها. علاوة على ذلك قد يكون عدم استخدام لقب أو كنية في ثق افتنا تهجما أو تحقيرا أو لا يناسب السياق الثقافي. وأتذكر أحد الزملاء الموظفين كنت أناديه أحياناً بأستاذ فلان أو الشيخ فلان أو أبي فلان لما غضب مني وأراد التعبير عن غضبه خلال مكالمة كان يردد ويضغط عليها (يا صالح) ظنا منه أنه يغيظني حين لم يستخدم في تلك المكالمة لقب دكتور أو أبا فلان كما اعتاد! فعدم استخدام اللقب أو الكنية في ثقافتنا له إحالة ثقافية تختلف عن الإحالة في الغرب. كما أتذكر طالبة كنت أشرف عليها وكانت تقرأ عليّ مقدمتها استعداداً للمناقشة بعد حذفي لجميع الألقاب من جميع الباحثين كعادتي دائماً مع الرسائل الجامعية، فلما بدأت الشكر قالت وأشكر صالح بن ... فتوقفتْ وتوقفتُ معها وكلانا لم يستسغ ذلك إذ قد يحيل إلى علاقة بين المشرف والطالبة في ثقافتنا تدور حول رفع الكلفة وعدم الرسمية، وهذا غير مقبول خاصة بين الجنسين. فقالت: أريد إعادة اللقب دكتور، فقلت: أتفق معك، والخيار لك لكن في الكتابة لا تثبيته مثله مثل غيره.
كما أن هناك من يستخدم الألقاب العلمية لأنها تدل الذين يبحثون عن أكاديميين؛ فهي مصدر رزق علمي ومادي لعمل أو استشارة أو تحكيم أو فحص أو ترقية. وقد بيّنتُ في تويتر أنني شخصيا لم أكن أضع اللقب الأكاديمي لكن تبين لي أن محركات البحث وكذلك المستقطِبون يميّزون الأكاديمي من غيره باللقب قبل الاسم.
البعد الخطير في هذه القضية أن يكون الإلحاح على عدم استخدام اللقب والتشنيع على من يستخدمه إن صدر من أساتذة معروفين يعود لأمرين: تضخم الأنا حتى ترى نفسها معروفة لا تحتاج إلى ألقاب وإن لاذ المنتفخ وتسربل بإيهام التواضع! فيرى في قرارة نفسه أنه لا يصح أن يُحجر في أستاذية في حقل معين ولا يجوز أن يكون مقتصرا على تخصصه؛ بل له أن يتحدث في كل شيء. الأمر الآخر: الأنانية وعدم الاكتراث بالآخرين، بمعنى أن من تجاوز هذه المرحلة وأفاد منها حتى النخاع وصار معروفاً مشهوراً أراد أن يفسد على الآخرين ما أفاد هو شخصياً منه؛ وهذه لعمري قمة الأنانية وإن توشحت بالتواضع! وحالته مثل حالة شخص كان موظفا فأغناه الله من وظيفته وصار لا يحتاج إلى الوظيفة فتقاعد وأصبح يوصي الآخرين بفتح مجال الوظيفة للآخرين! ويعلن أن من لم يتقاعد مبكراً فهو يأخذ من حق الشباب المقبل على الحياة ويلهث خلف دنيا فانية!! وصار يتكلف الزهد وهو قد أثرى من وظيفته. وقد كان يسعه أن يلتزم بما يراه دون أن يفسّر سلوك الآخرين المختلف عن سلوكه بأي تفسير. فهناك أناس في حاجة للرزق والوظيفة لكن أخانا يريد من الآخرين أن يقتدوا به ليكون بطلاً على لا شيء! ولا أرغب بتشبيهه براكب وصل إلى وجهته على يخت فاره وحط رحاله في بر الأمان وأصبح ينادي بحرق المراكب خلفه أو صار ينادي باستخدام المراكب الشراعية لأن اليخوت والسفن رفاهية لا داعي لها. وليس بعيداً كذلك عمن وصل إلى سدة حكم أو رئاسة بانتخابات ثم أراد إلغاء الانتخابات لأنها مخالفة للشرع على الرغم من أنها هي التي أوصلته.
في ختام هذه المقولة أعتقد أن التواضع في هذا الصدد يقتضي عدم حديث الشخص عن تواضعه وعدم تشنيعه أو تلميحه أو تصريحه بمن يخالفه سلوكه إن كان السلوك غير سيئ في الظاهر. فالتواضع لا يكون بأن يخبر المتواضعُ الآخرين بتواضعه وكيف يختلف عن الآخرين حتى لا يكون غاية التورم أو يكون فعله مثل الصدقة التي يتبعها منٌ أو أذى. ويقتضي العرف الاجتماعي عدم حديث الشخص عن خصاله الحميدة على الآخرين! كما أن المنهج العلمي يقتضي عدم عزو ظاهرة إلى سبب محدد أوتوماتيكياً، كما أن الاقتداء بالغرب يقتضي ألا يقتصر على الشكليات كاستخدام اللقب؛ بل يتعدى ذلك إلى عدم الإفتاء في كل أمر والاكتفاء بجزئية تأستذه دون غيرها!
** **
- د. صالح بن فهد العصيمي