د.عبدالعزيز عبدالله الأسمري
اتسمت العلاقات الإيرانية - التركية في شقها السياسي والاستراتيجي بالصراع والتنافس على مدى التاريخ بسبب الاختلاف الجذري في الهويات والأيديولوجيات الدينية لكلا البلدين. وقد انعكس ذلك على أزمات منطقة الشرق الأوسط؛ إذ نجد كلتا الدولتين حاضرتين بمشاريعهما الإقليمية (المشروع الإيراني الصفوي والمشروع العثماني التركي)، والمحكومَين بتباين الأجندات والأطر الأيديولوجية الدينية مع خليط من الفكر القومي، بالرغم من تشاركهم في بعض المصالح الأمنية والاقتصادية.
في بداية القرن العشرين لم تكن لإيران وتركيا علاقات وثيقة رغم المحاولات الحثيثة لإحداث شراكة بينهما. فلم تحوِّل زيارة شاه رضا بهلوي لتركيا في عام 1934، ولا ميثاق سعد آباد لعام 1937، العلاقات بين البلدين إلى شراكة كاملة. وبعد الحرب العالمية الثانية انضمت تركيا إلى المعسكر الغربي كعضو في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في عام 1952، وأصبح كل من أنقرة وطهران إلى جانب بريطانيا والعراق وباكستان حلفاء بموجب ميثاق بغداد في عام 1955. ومع ذلك لم يحسِّن ميثاق بغداد التعاون بين تركيا وإيران، على الرغم من أن الميثاق تعهد بمشاريع لتحسين التعاون التجاري والاتصال والدفاع بين أعضائه.
بحلول منتصف سبعينيات القرن العشرين نشأت فرصة جديدة لإيران وتركيا لتعزيز شراكتهما؛ فقد عرض شاه إيران في صيف عام 1975 على تركيا 1.2 مليار دولار في شكل اعتمادات لبناء الطرق السريعة لتحسين التجارة البرية لإيران مع أوروبا، كما ناقشت طهران وأنقرة خطط بناء صناعات دفاعية مشتركة. ومع ذلك لم يتعمق التعاون الإيراني التركي من عام 1974 حتى عام 1980، ولم ينتج البلدان أسلحة أو بنى طرق سريعة معًا، ولم تزدَدْ التجارة الثنائية بينهما أيضًا.
في نهاية السبعينيات قلبت ثورة الخميني والحرب الإيرانية - العراقية الموازين رأسًا على عقب؛ فلم يعد لطهران كما كان في سابق عهدها اليد العليا في العلاقات الإيرانية - التركية؛ إذ حلت أنقرة محلها كحليف رئيسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، واستغلت تركيا عداء إيران لأمريكا، وحربها مع العراق، وازدياد مشاكلها على المشهد الداخلي والعالمي، كتصدير الثورة وأزمة الرهائن والعقوبات الأمريكية والعزلة الدبلوماسية والركود الاقتصادي، في التعامل معها من موقع القوة.
تعد القضية الكردية مصدر توتر ومحركًا رئيسيًّا للسياسة الخارجية والقضايا الأمنية لكلتا الدولتين؛ فبالرغم من تعاونهما الأمني في محاربة الأحزاب الكردية إلا أن تركيا تتوجس من امتداد الدعم الإيراني للتمرد الكردي في شمال العراق إلى دعم القوميين الأكراد في جنوب شرق تركيا؛ وهو ما سيعزز دعوات لمزيد من الحكم الذاتي للسكان الأكراد في تركيا وسوريا؛ إذ أصبحت القضية الكردية ورقة ضغط إيرانية، تساوم بها لإعادة تشكيل سياسة تركيا تجاه النظام السوري.
في الماضي القريب بدا الأمر كما لو أن إيران وتركيا أصبحتا شريكتَين إقليميتَين، واقتربت أنقرة من التوسط في نزاع طهران النووي مع العالم الخارجي خشية على مصالح الأمن القومي التركي فيما لو تحولت إيران إلى ساحة صراع جديدة مثلما شهده العراق، ولكن تداعيات الربيع العربي، وانتقالها إلى سوريا ثم اليمن، عمّقت الانقسام بينهما، ولاسيما في العراق وسوريا؛ فالأولى أصبحت داعمًا لنظام بشار، بينما الثانية مدافعًا عن الحراك الشعبي السوري.
ورغم اختلاف «النموذج التركي» (ديمقراطي علماني وديمقراطية موالية للغرب مع اقتصاد السوق الحر) مع «النموذج الإيراني» (حكم استبدادي ديني وغير ديمقراطي ومعادٍ للغرب مع اقتصاد تحكم) إلا أن هناك أسبابًا أعمق لفشل البلدين بشكل اعتيادي في أن تصبحا شريكَين استراتيجيَّين؛ فعدم تطابق الغايات والوسائل في نظرتهما للسياسة الخارجية، وانعدام الثقة المتبادلة بين الدولتين، يزيد من شكوك زعماء البلدين في بعضهما، ويمنع من نشوء علاقات استراتيجية بينهما.